Author

زيادة الدعم أو الرواتب.. أيّهما أجدى؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
كما بيّنت في نهاية المقال الأخير، أنّ تفاصيل مهمة وكثيرة ضمن سلسلة المقالات الثلاث ''هيكلة الاقتصاد.. أمْ زيادة الرواتب فقط'' سأعود إليها بالمزيد من الحديث. وقبل أنْ أسترسل في تلك التفاصيل المهمّة جداً، هناك بعض المعلومات ''الموثّقة''، يجب معرفتها من جميع الأطراف المعنيّة بموضوع زيادة الرواتب، سواء في القطاعين الحكومي أو الخاص: (1) شكّل بند رواتب العاملين في القطاع الحكومي نحو 32 في المائة من إجمالي مصروفات الحكومة، وتقدّر وزارة المالية وفقاً لصندوق النقد الدولي أن تُحافظ على هذه النسبة إلى نهاية 2017. هذه النسبة تختلف عمّا يروّج له عن جهل بأن نسبة الرواتب إلى إجمالي مصروفات الحكومة تتجاوز 65 في المائة! (2) فيما شكّل بند رواتب العاملين في القطاع الخاص أقل من 16.5 في المائة من إجمالي النفقات التشغيلية لكافّة منشآته، وأقل من 7 في المائة من إجمالي إيراداته التشغيلية ''المسح الاقتصادي 2010م لمصلحة الإحصاءات العامّة''. (3) بلغت نسبة السعوديين العاملين في القطاع الحكومي بنهاية 2012 إلى 93.7 في المائة، فيما بلغتْ نسبة العاملين منهم إلى إجمالي العمالة في القطاع الخاص للعام نفسه إلى 13.4 في المائة، وتظل معرفة النسبة الأخيرة المتعلقة بالقطاع الخاص بالغة الأهمية، كونها صغيرةً جداً، والأصغر منها حصّة العاملين السعوديين من إجمالي فاتورة الأجور المدفوعة، والتي تُقدّر في حدود 7 إلى 8 في المائة فقط من إجمالي تكلفة الأجور، بما يُشير إلى أن الزيادة المطلوبة بـ 121 في المائة لن تُشكّل عبئاً كبيراً على ميزانية منشآت القطاع الخاص، خاصةً أن إجمالي فاتورة الأجور لا تشكّل أكثر من 7 في المائة من إجمالي الإيرادات. (4) أنتقلُ إلى تكلفة الدعْم المقدّم من الحكومة على مختلف السلع والخدمات وموارد الطاقة المختلفة، الذي بلغتْ تكلفته التقديرية وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي عن العام الماضي نحو 347 مليار ريال ''12.2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي 2012''، وكما سبق الإشارة إليه؛ جاءتْ استفادة الأثرياء والمستثمرين الأجانب أكبر من فائدة الفئات الاجتماعية المستهدفة بذلك الدعم، في الوقتْ الذي ذابتْ فيه الزيادة الطفيفة والمتقطعة في رواتب العاملين السعوديين كالسكّر في الماء، نتيجة الارتفاعات اللاحقة في مستويات الأسعار، لتعود الحال إلى ما هو أسوأ من ذي قبل، ومن الطبيعي جداً أن تعود الأصوات للمطالبة بإيجاد حلولٍ سريعة ''جزئية''. اللافتُ جداً والخطير في أعماق دراسة استفادة المستثمرين الأجانب من الدعم الحكومي، أنَّ أكثر من 85 في المائة من تدفقات تلك الاستثمارات الأجنبية ''747.2 مليار ريال بنهاية 2012''، تركّزت استثماراتها البالغة أكثر من 635 مليار ريال حتى نهاية 2012 على الصناعات التحويلية المستخدمة بصورةٍ أكبر لمواد اللقيم ذات الأسعار المنخفضة ''النفط المكرر، المنتجات الكيماوية والبتروكيماوية''، المدعومة سنوياً من قبل الحكومة بالكثير من الأموال كما قدرها صندوق النقد الدولي بأكثر من 12.2 في المائة من حجم الاقتصاد الوطني. الآن على أساس ما تقدّم أعلاه من خلاصةٍ رقمية موثّقة؛ لماذا يُقترح في ظل هذه الرؤية المركّزة في هذا المقال وما سبقه من مقالاتٍ ثلاث، أن (1) يتم إزاحة الدعم العشوائي وغير المركّز على الفئات الأكثر حاجةً إليه بصورةٍ تدريجية لا تتجاوز العامين، و(2) زيادة رواتب السعوديين العاملين في القطاعين الحكومي والخاص، و(3) إعادة تصميم السياسات والبرامج الاقتصادية لتتوافق مع متطلبات وتحديات المرحلة الراهنة والمستقبلية للاقتصاد الوطني. إنّها حلول ترتبط ببعضها البعض، ولا يمكن فصل إحداها عن الأخرى! كما أنّ توقيتها في المرحلة الراهنة مناسبٌ جداً، قياساً على توقعات عدم بقاء أسعار النفط في مستوياتها المرتفعة الآن لفترةٍ أطول مما مضى من فترة ازدهار غير مسبوقة لها، ما قد يزيد مستقبلاً من ضغوط التحديات الجسيمة على كاهل الاقتصاد الوطني، والحكومة بصورةٍ أكثر تحديداً. سيستغرب الكثير من كل هذا أمام المطالبة بزيادة الرواتب، ما دام أنَّ هذا سيناريو متوقع للاقتصاد الوطني وللموازنة الحكومية! سيزول هذا الاستغراب إذا ما تمّت المقارنة بين تكلفة زيادة الرواتب وعائد سحب الدعم الحكومي مستقبلاً، إنَّ أكثر ما يُخشى منه في ظل هذا السيناريو أنْ تضطر الحكومة إلى اتباع الخيار الثاني ''سحب الدعْم الحكومي'' دون الخيار الأول ''زيادة الرواتب''، وهذا بدون أدنى شكٍّ سيزيد بصورةٍ يصعب تقديرها بأرقام اليوم من أعباء المعيشة على كاهل المواطن، خاصةً أن أسعار الغذاء والواردات يُتوقع لها أن تتصاعد بصورةٍ أقوى مما مضى! وهذا وقعْه لن يكون هيّناً كما سبقت تجربته بالنسبة للاقتصادٍ يعتمد في كثيرٍ من استهلاكه المحلي على الواردات. إذاً والحال تلك؛ تظل الخيارات الثلاثة المتكاملة كما أسلفتُ ذكره سابقاً وأعلاه هي الأفضلُ مقارنةً بغيرها من الخيارات، خاصةً أن بقية الخيارات قد تتخذ تحت ضغوط التغيرات السلبية على مستوى أسعار النفط. وكما سيأتي سيتضح لنا أن تكلفة زيادة رواتب السعوديين تُعد أدنى من تكلفة الدعم العشوائي! وأنَّ تلك الخيارات المقترحة تتضمّن إصلاحاً هيكلياً للاقتصاد الوطني وسياساته وبرامجه، تستهدف بصورةٍ أساسية خفض التدخّل الحكومي، وتعزيز القدرة التنافسية لدى القطاع الخاص، التي بدورها ستخفّض من الاعتماد على الواردات والاستقدام، ورفع القدرة الإنتاجية للاقتصاد وتعزز من قاعدته الإنتاجية، أؤكّد أنّها خيارات تستحق الاهتمام من لدن القائمين على الأجهزة الاقتصادية والمالية لدينا. ولإزالة اللبس حول أهم نقطة تتعلّق بزيادة الرواتب؛ تُشير توقعات زيادة الرواتب للموظفين السعوديين في كلٍ من القطاعين الحكومي والخاص، وفقاً لنسبة لا تقل 121 في المائة ''النسبة التي تُعادل بين قيمة الأجور الاسمية والحقيقية''، أؤكد أنَّ تلك الزيادة المقترحة لن تتجاوز نسبتها على مستوى كامل فاتورة الأجور المدفوعة لجميع العاملين في الاقتصاد الوطني أكثر من 69 في المائة، ذلك أن نسبة مساهمة العمالة السعودية في سوق العمل لا تتجاوز وفقاً لإحصاءات عام 2012 سقف 24.2 في المائة من إجمالي العمالة ''93 في المائة للقطاع الحكومي، 13.4 في المائة للقطاع الخاص''، علماً أن كل تلك الزيادات المقترحة ستأتي أقل من الدعم المكلّف، وعبر الزمن القادم ستذوب تكلفة تلك الزيادات في الوفر الهائل من الدعم العشوائي غير المدروس، وهو سيكون له الحديث القادم.
إنشرها