Author

هيكلة الاقتصاد.. أمْ زيادة الرواتب فقط؟ (2 من 3)

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
أُكملُ الحديث المتصل بهيكلة الاقتصاد الوطني عبر المدخل الرئيس ممثلاً في موضوع زيادة الرواتب، مبتدأً بالقرين الأول للموضوع ممثلاً في ''التضخم'' كما ذكرتُ في الجزء الأول من هذه السلسلة، تاركاً الحديث في الجزء الثالث والأخير عن القرين الثاني ''الدعم المقدّم على مختلف السلع والخدمات''، ومن ثم الوصول لنهاية الحديث المتمثل في قضية الرواتب وزيادتها من عدمها، حسبما تقتضيه الحالة الاقتصادية والمعيشية الراهنة. التضخّم هنا على مستوى السياسات المضادّة له مرتبطٌ بنوعية السياسات الاقتصادية المعمول بها وتحديداً السياسة النقدية، التي كما هو معلومٌ أنّها مرتبطة بسياسات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المعنيّة بالدولار الأمريكي، والأخيرة تتحرك وفق حالة الاقتصاد الأمريكي انتعاشاً وركوداً، ولارتباط الريال السعودي بسعرٍ ثابتٍ ومحدد مع الدولار الأمريكي، جاء ارتباط السياسة النقدية للريال بالدولار. قد تأتي ثمارُ الارتباط صالحة لنا إذا ما توافقتْ أو تشابهتْ حالتا الاقتصادين السعودي والأمريكي، وهو ما ندر حدوثه خاصةً خلال العقدين الأخيرين. وقد تأتي عكس الرياح بالنسبة لنا إذا ما اختلفتْ حالتاهما، ولعل العقد الأخير هو المقطع الزمني الأكثر انفصالاً بين الاقتصادين، إذْ شهد الاقتصاد السعودي خلاله ارتفاع أسعار النفط بأكثر من 6.3 أضعافه بين نهاية العقد الماضي والعقد الجاري، مرتفعاً متوسط سعر برميل النفط العربي الخفيف من 17.45 دولار أمريكي للبرميل خلال 1999م (متوسط الإنتاج اليومي 7.56 مليون برميل)، إلى 110.27 دولار أمريكي للبرميل (متوسط الإنتاج اليومي 9.76 مليون برميل). عزز الارتفاع القوي لأسعار النفط بدوره من مستوى السيولة المدفوعة في الاقتصاد الوطني (بلغ عرض النقود في 1999م نحو 305.9 مليار ريال، وفي 2012م نحو 1.4 تريليون ريال)، وساهم في رفع معدلات النمو الحقيقي (تضاعف بأكثر من 4.1 مرات مقارنة بين العقدين الأخيرين)، وأدّى للتحسّن القياسي في المالية العامّة الحكومية (تضاعفت الإيرادات الفعلية بأكثر من 6.1 مرات، والمصروفات الفعلية بنحو 3.0 مرات، مقارنة بين العقدين الأخيرين)، وهو ما ساعد المالية الحكومية على خفض مستوى الديَن المحلي من أعلى مستوياته عند 685.20 مليار ريال بنهاية 2002م (97.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) إلى ما دون 98.85 مليار ريال (3.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، مخفّضاً بصورةٍ كبيرة من حالة التزاحم على الائتمان المحلي مع القطاع الخاص، على أن حالة التفرّغ تلك لدى البنوك المحلية لم تأتِ على ما كان ينبغي لها أن تكون؛ لاندفاعها نحو تمويل القروض غير العاملة أكثر من غيرها. الشاهد مما تقدّم أنّ هذا الانتعاش القوي الذي مرّ به الاقتصاد السعودي قابله ركود وأحيان كساد أمريكي في اقتصاده، بل إن الأخير شهد أزماتٍ مالية أثّرتْ على الاقتصاد العالمي برمّته، ما استدعى من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي انتهاج سياساتٍ نقدية توسعية لأجل إنعاش الاقتصاد وتحفيزه، تبعته بطبيعة الحال السياسة النقدية لمؤسسة النقد لدينا بحكم ارتباط الريال بالدولار. نظراً للتشوّهات الهيكلية السابقة والقديمة في اقتصادنا، التي ساهمتْ بدورها في تفاقم الآثار السلبية لذلك الارتباط عبر نافذة السياسة النقدية؛ جاءت النتائج وخيمة إلى حدٍ بعيد، لعل أبرز تلك النتائج اختصاراً للحديث: (النتيجة الأولى) نظراً للسيولة النقدية الهائلة التي تشكّلتْ لدى اقتصادنا، التي زاد من زخمها محلياً (1) عودة جزءٍ كبير من الثروات الوطنية المهاجرة عقب أحداث 11 سبتمبر 2011م في الولايات المتحدة، و(2) مساهمة الارتفاعات المستمرة في أسعار النفط في ارتفاع الإيرادات والمصروفات الحكومية، إزاء شبه انسداد الفرص الاستثمارية محلياً، دفع بأغلب تلك السيولة الهائلة للاتجاه نحو سوق المال، التي كانتْ ضحلةً جداً لا تتجاوز قيمتها الرأسمالية سقف الـ 281 مليار ريال في مطلع العقد (68 شركة مساهمة، ونحو 77.9 ألف متعامل)، لتشهد تشكّل أكبر فقاعةٍ سعرية في تاريخها، وصلتْ مع احتشاد السيولة داخل جنباتها الضيّقة إلى أكثر من 3.1 تريليون ريال كقيمةٍ سوقية (78 شركة مساهمة، ونحو 3.0 ملايين متعامل) قبيل انهيارها في 26 فبراير 2006م. كأنما لعبتْ السوق المالية آنذاك دور ''الحاضنة'' لتلك السيولة الهائلة، وتحتْ تخديرها ظلّتْ السياسات الاقتصادية كما هي؛ لم يطرأ عليها أيّ تغييرٍ يُذكر، شجّعها على المضي في سيرتها الأولى منذ 1970م التحسّن الكبير، الذي طرأ على معدلات النمو الحقيقي للاقتصاد، الذي لم يتحقق للاقتصاد منذ 1980م، وأنّ معدلات التضخم لم يطرأ عليها أي ارتفاعٍ يُذكر، بل لقد وقعتْ كل من وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي في حيرةٍ من أمرهما، حينما كانتا تشاهدان معدلات النمو السنوية للسيولة المحلية تقفز لنحو 19 في المائة، كما جرى في 2004م (بلغتْ الفجوة التضخمية 11.1 في المائة)، في الوقت ذاته الذي لم يتجاوز معدل التضخم آنذاك سقف 0.3 في المائة! ليأتي الخبر اليقين إليهما مع ضحى الـ 26 شباط (فبراير) 2006م، مجيباً على سؤالهما الحائر، أين احتشدتْ تلك السيولة الهائلة المتدفقة على الاقتصاد الوطني؟! خلاصة القول هنا: أنَّ التضخّم انحصر في سوق الأصول، ولم يشعر بوجوده أحد إلا في ضحى ذلك اليوم المشهود. (النتيجة الثانية) خرجتْ السيولة العارمة من سوق المال، لتنتشر كسيل العرم في مختلف جنبات الاقتصاد الوطني، الذي لم يطرأ عليه الكثير من التوسّع الكفيل بامتصاصها، لتبدأ الرحلة المريرة مع آثارها التضخمية بدءاً من شهر آذار (مارس) 2006م، وكانت ''السوق العقارية'' أوّل من تدفقتْ على مرابعها شبه المحتكرة! ثم لتنتقل وتعمّ آثارها التضخمية بقية النشاطات، ولا تزال آثارها الزاحفة تتفاقم حتى يومنا هذا. مربط الفرس هنا؛ أنّ معدلات الفائدة على الريال طوال المرحلتين، شهدتْ أدنى مستوياتها طوال الأربعة عقودٍ الماضية، وما ذاك إلا لفقدان السياسة النقدية لاستقلالها عن الدولار الأمريكي، الذي كان رغماً عن أنفه يخوض في مستنقعات الركود التاريخي لاقتصاده العملاق! فيما كان الريال يسبح فوق فورة اقتصادٍ أنعشته إيرادات النفط التريليونية. كان الثمن باهظاً جداً على حساب مرابعنا، نتيجة الجمود في السياسات الاقتصادية، وتحديداً السياسة النقدية، فكان انفجار فقاعة سوق المال قبل شباط (فبراير) 2006م، تلتها موجات جحيم التضخم التي ضربتْ مختلف جنبات الاقتصاد من بعد آذار (مارس) 2006م إلى يومنا الراهن، كان أوّل وأكبر ضحاياها راتب العامل. وأكمل الحديث في الجزء الأخير القادم..
إنشرها