Author

هيكلة الاقتصاد .. أمْ زيادة الرواتب فقط (1 من 3)

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
جدلٌ ليس بالجديد، الذي يُثار حول زيادة رواتب العاملين بالقطاعين الحكومي والخاص، بل قد يكون هو الموضوع الأكثر إثارة وحديثا طوال العقد الزمني الأخير، ويُعزى ذلك في الدرجة الأولى إلى موجة ارتفاع الأسعار التي ضربتْ جميع أنحاء أنشطة الاقتصاد الوطني منذ مطلع عام 2006، شملتْ بدرجاتٍ متفاوتة جميع أسعار السلع الاستهلاكية والمعمرة والخدمات دون استثناء، بعضها فاق تراكمياً خلال الفترة 2006 - 2012 مستوى الـ 87 في المائة كما حدث في بند الإيجارات، وبعضها لم يُسجّل أي نمو ملفت في مستوى أسعاره كما حدث لبند الأقمشة والملابس والأحذية للفترة نفسها. ليستقيم الحديث حول هذا الملف "الرواتب" البالغ الأهمية، لا بد من طرحه على مائدة البحث الدقيق مقترناً ببحثِ ملفي (1) التضخم وأسبابه. (2) الدعم المقدّم على مختلف السلع والخدمات. كونهما مرتبطين بدرجةٍ كبيرة بمستوى الأجور المدفوعة إلى جميع شرائح العمالة في القطاعين الحكومي والخاص، وحتى المستحقات التقاعدية المدفوعة للمتقاعدين، إضافةً إلى ما يستلمه ورثة المتوفّى منهم. التضخّم أدّى إلى تآكل القوة الشرائية لمداخيل الأفراد، في الوقت الذي دفع الحكومة كإجراءٍ فقير أمام شلل السياسات الاقتصادية، إلى زيادة الدعم على السلع والخدمات دون تفرقةٍ بين الأكثر احتياجاً له ومن ليس في حاجته، ليتحوّل أغلب فائدته للأغنياء على حساب الشرائح الاجتماعية المستهدفة من وجوده، ويكون في الوقت ذاته عبئاً ثقيلاً على الميزانية الحكومية، التي بدورها وقفتْ موقفاً أكثر تحفّظاً تجاه رفع مستويات الرواتب، متعللةً على لسان وزارة المالية؛ (1) أنَّ زيادة الرواتب ستؤدي إلى مزيدٍ من التضخم "اعترافاً غير معلن بعجز السياسات المضادة للعمليات المخالفة برفع الأسعار من قبل التجار الانتهازيين لمثل هذا القرار". و(2) أنَّ زيادة الرواتب ستكون عبئاً إضافياً على المصروفات الحكومية، رغم أنّه أقل عبئاً وضرراً من زيادة الدعم في موقعٍ آخر من فاتورة المصروفات، الذي لم يثبتْ نفعه تنموياً خاصةً للشرائح الاجتماعية المستهدفة، بقدر ما أنّها أفضتْ لمزيد من زيادة الاستهلاك المفرط على مصادر الطاقة تحديداً. إنّ ما وصلتْ به الحال أمام هذا المشهد الاقتصادي والمالي البالغ التعقيد، ليس إلا مؤشراً قديما وجديدا في الوقت ذاته؛ على ضرورة تحديث وإعادة تصميم السياسات الاقتصادية لدينا، وأنّ القضية برمّتها لا تقف عند مجرّد المطالبة برفع الرواتب. وإذا كان الشاهد والعنوان في الوقت الراهن هو المطلب الأخير برفع الرواتب، فالحقيقة وفقاً لما هو قائم الآن من مطبّاتٍ تتفاوت صدماتها من وقتٍ لآخر على الاقتصاد الوطني كما سيأتي الحديث عنه بالتفصيل بعد قليل، أؤكد أن تلك الحقيقة تعبّر عن نفسها بضرورةٍ قصوى لأن يُعاد رسم وتصميم جميع السياسات الاقتصادية الراهنة، وليس مجرّد اتخاذ قراراتٍ أشبه ما تكون "بالفزعات" سواءً بزيادة الدعم على مصادر الطاقة، أو على السلع الاستهلاكية الضرورية، أو على الواردات، أو على السلع المعمرة، أو على رسوم الخدمات، أو بالزيادة المتحفظة على الرواتب من فترةٍ لأخرى. لنعترف بفشل أية إجراءاتٍ جزئية للحل أو الإنقاذ وسط اختلالاتٍ أوسع وأكبر، لنعترف أن الدعم بمختلف اتجاهاته استفاد منه من لا يستحقّه، في الوقت الذي لم يرى منه من يستحقّه شروى نقير! بل أفضى إلى وقوعنا في فوضى عارمة على مستوى الاستهلاك المُفرط في موارد الطاقة "تجاوز معدل النمو السنوي لاستهلاكها ثلاثة أضعاف معدل النمو الحقيقي للاقتصاد". وأن الزيادات الطفيفة في مستويات الرواتب من فترةٍ إلى أخرى رغم قلّة عددها، قد استفاد منها بأضعافها التجار على مختلف مشاربهم، حتى لم يعد مستغرباً أن ترى الموظّف يقشعر بدنه رعباً كلّما قرأ أو سمع عن زيادة مرتقبة في الرواتب! لنعترف أنّ أية حلولٍ جزئية وسط حقولٍ أوسع وأكبر من الاختلالات والتشوهات، أقول لنعترف أنّها قد جرّتنا دون تخطيطٍ إلى مستنقعاتٍ أخطر وأعنف مما كانتْ عليه الحال قبلها، وهذا لا يعني رفض تلك الإجراءات الجزئية على العموم، بقدر ما أنّه كان من الأجدر والأولى في الحقيقة اتخاذ قراراتٍ أكثر جرأة، وأوسع نطاقاً، وأعمق جذراً، تكون باتجاه تطوير وإعادة تصميم السياسات الاقتصادية القائمة! وبقدر ما أنّ تلك الإجراءات المؤقتة أوهمتْ مصممي تلك السياسات بجدوى استمرار العمل بها، الذي يُشير في وضوحٍ تام إلى الخطأ الفادح الذي وقعتْ فيه تجاه قراءة "مؤشرات" أداء تلك السياسات! فما تكرر حدوثه من أزماتٍ طوال العقد الماضي على الأقل، لم يكن إلا "مؤشراتٍ" حقيقية على انتهاء صلاحية تلك السياسات، ما يقتضي بالضرورة الذهاب فوراً نحو إعادة تصميمها بصورةٍ تؤهلها فعلاً للانسجام والتزامن مع مختلف الفرص والتحديات التي يعبرها الاقتصاد الوطني، لا أن تغض النظر عنها، وتحاول التخفيف من آثارها المسمومة بمثل تلك الإجراءات أو القرارات أو الحلول الإنقاذية المؤقتة. سأجتهد هنا عبر هذه السلسلة الثلاثية للمقال، وفق ما يتوافر من بياناتٍ ورصدٍ للتطورات والمتغيرات خلال العقدين الماضيين، لأجل رسم صورةٍ شاملة ودقيقة قدر الإمكان للمشهد الاقتصادي بصفةٍ عامّة، وبصفةٍ خاصّة بالتركيز على العنوان الأبرز في الوقت الراهن حول زيادة الرواتب، وربط تلك الحالة بأهم متغيرين كما ذكرت أعلاه يتمثلان في (1) التضخّم. (2) الدعم المقدّم على مختلف السلع والخدمات، وتوظيف النتائج بصورةٍ مجتمعة في فحص جدوى السياسات الاقتصادية الراهنة. لنأخذ الأمر على أنّه محاولة جادة للإجابة على الأسئلة التالية: ما الذي أدّى إلى تفاقم تلك الإشكالات المتكررة من فترةٍ إلى أخرى؟ وهل كانتْ تلك القرارات أو الحلول الإنقاذية نافعة أم لا؟ وهل من المجدي الاستمرار على نمط التعامل معها بصورته تلك؟ أم هل من الضرورة بمكانٍ البدء بالتفكير خارج الصندوق المجسّم أمامنا الآن، والانطلاق من أرضيةٍ جديدة تقتضي إعادة رسم وتصميم جدران ذلك الصندوق المحيط بجسد الاقتصاد الوطني، والعمل على بنائه بناءً جديداً وفق ما تقتضيه الفرص الواعدة والتحديات الجسيمة، بلغة أرقام العصر الراهن، والمستقبل القادم؟ التي أرجو من خلال هذه الرحلة القصيرة، أن نصل إلى تصورٍ يؤهل ليس فقط لأجل وضع الحلول المثلى لعنوان قضية المجتمع اليوم ممثلةً في المطالبة برفع الرواتب! بل إلى ما هو أبعد من ذلك بالتوكّل على رب العزة والجلال، وأنْ يُوفّق هذه البلاد الحبيبة وأهلها بالمضي قدماً على طريق الخير والرشاد، وإلى الملتقى في المقال القادم حول بقية الموضوع.
إنشرها