Author

كنزُ الكنوز

|
.. ليس هناك في كل الكون، أو ما نعرفه في الكون، أكثر تعقيدا، وسحرا، وغموضا، وإيضاحا، ودقة صنع، ورفعة أداءٍ، وأكثر تلفعا بالأسرار كالعقل البشري. نقطة آخر السطر! إننا جميلون إن زيّننا جمال عقولنا، إننا منحرفون إن انحرف شيءٌ في عقولنا، إننا عباقرة إن انحرف أيضاً شيءٌ في عقولنا. دماغٌ به بلايين الحجرات، بلايين الومضات، بلايين الترددات، بلايين النبضات الكهربية، بلايين العمليات الكيميائية.. بلايين بلايين المجاهيل التي لا ندركها. ولكن ما عرفناه عن العقل إلى يومنا هذا، هو من أكثر اكتشافات الإنسان إدهاشاً وأهمية وروعة وصعوبة. في القرنيْن الماضييْن شهد العالم القفزة الكبرى من ضفاف القرون التي قبله، إلى ضفةٍ جديدة أنتجت عالماً جديداً، بل عوالم جديدة. دوّت الانفجارات العلمية الكبرى في مجالات علمية كثيرة، ففي الفيزياء توصلت العبقرية الإنسانية إلى فك طلاسم الحياة حولنا غير المدركة، وصارت مصابيح واضحة باكتمال النظريات والكشوف الفيزيائية التي غيّرت المفهوم الإنساني للكون للأبد. ''إينشتاين'' أرانا أن الوقتَ والزمنَ مطلقا الحدود للأبد، ناقضا كل فلسفتنا الفيزيائية عبر تاريخ القناعات العقلية البشرية. و''هيسنبرج'' علمنا أنه فيما دون الذرة، كل معرفتنا وأفكارنا عن السبب والأثر Cause and effect تهاوت هياكلُها أمام أعينِنا. ولم نكد نلتقط أنفسَنا عن الدهشة حتى تم الإفصاح عن الثقوب الكونية السوداء، ومراوغة الكوانتم، ومئات من الكشوف التي جعلت القرنيْن الماضييْن سلسلة من الدوران في إعصارٍ مداري من الإدهاش والإعجاز، حتى إن العالـَمَ الفكري انقلب لقسميْن، قسمٌ جعل العلمَ ديناُ، وقسمٌ جعل العلمَ تأكيداً للدين. وبدأنا نرى الكونَ بغير صورته الحالمة، فالنجوم كتلٌ من اللهيب، والقمر كتلة صماء مجدرة بالفجوات الصخرية، ولم يبقَ الوله التخيلي أن الكونَ قيثارة وأوتارها النجوم والأقمار إلا عند الشعراء والحالمين. ثم علم الكوزمولوجي ''علم دراسات الكون'' الذي أدرج الإفصاح الأكبر عن كون متسع وقابل للإتساع، وعن سر الأزل بالمادة السوداء في نسيج الكون، وانتهاء مضمون معنى كل الأعداد بهول أعداد المجرات والنجوم والأجرام والسواقط والنزك. وانفتحت بوابات الكيمياء بجدولها العنصري المسجل والمفكك، فصنع الإنسان مواد جديدة كالبلاستيك، ووفرة إنتاج واستنهاض تفاعلات كيميائية في السلسلة الدوائية التي تعاملت مع الأمراض بمسيرات الفاتحين والمنتصرين. وعلم الرياضيات نقلنا للحواسب الأولى ثم الكمبيوترات، وعلم الأحياء فك المغاليق التشريحية والفيزيائبة في أجسادنا بتفاصيل تدير العقول. وفي اليد الأخرى، لم تتقدم العلوم بالمختصّة بالعقل كما فارت العلوم الأخرى. وتعثرت طويلاً بمشابك الزمن فأبطأت. فقط لنعرف أنه حتى أوائل القرن العشرين كانت أعظم دراسات العقل هي تلك ''الفرويدية'' التي كانت تهويلاً شاذاً عن أن كل السلوك البشري متعلقٌ بالجنس، وهذا يعطيك مثلاً على مدى التأخُّر في علوم العقل، في حين أن العلوم الأخرى بدأت تسهم في اكتشاف الفضاء وأعمق الأعماق. حتى في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين بدأ علم النيورولوجيا وعلم النفس والطب النفسي تترحّل لعصرٍ وفتح جديدين، وأقيس الحالة من قبل الثمانينيات إلى ما بعدها في دراسات العقل، كانتقال البشرية من العصر البرونزي للأزمان الحديثة. الآن عرفنا أن الأمراض العقلية ليست من الجن والأرواح الشريرة، بل من عمليات مادية بالعقل ومنه. عرفنا ما يتصل بمرض التوحد، والانفصام، والذهان، والصرع. بل أكثر، صاروا يعرفون الطبيعة الغاضبة، والمجرمة والمنحرفة من دراسات الدماغ، وأصبحت الآن معاهد البحوث والدراسات العقلية تتقدم الأنشطة العلمية، لأن في العقل.. كنز كنوز كل الحلول. إن في بلدنا الآن نخبة جيدة من العلماء المتخصّصين بعلوم الطب المختلفين الأدوية، وميكانيكا الدماغ، وكهربائه، وكيميائه. نعاني عدم التفرقة بين الأمراض العقلية والسلوكيات التي نعتبرها طبيعية أو متطرفة قليلاً، وهي كلها مفاتيح بالعقل تحتاج إلى ضبط وبناء. أرى أن وجود معهدٍ متقدم ومرتبط بالمعاهد العالمية للبحث والدراسة المختصّة بعلوم العقل مهم، ليس ككسب علمي بحت فقط، بل لمعالجة ظواهر عقلية في بلدنا، مثل الاكتئاب وهو منشر بشكل يدعو إلى التوجس، ووصلوا إلى أدويةٍ وطرق سلوكية تشفيه، ولكنها أيضا تختلف من مسبّبات إلى أخرى، ومن بيئة إلى أخرى. وجود مركز عندنا لدراسات العقل.. يدل على العقل!
إنشرها