Author

قروض الظل المصرفي .. الإنقاذ الإنقاذ

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
ما تفاقمت الديون في أي اقتصادٍ كان إلا أسقطته أرضاً، وما تداعى الدخل الحقيقي للفرد إلا اضطر مرغماً إلى الاقتراض، فليس أمام تواضع قوته الشرائية مقابل التورّم المتسارع لتكاليف معيشته إلا هذا الباب! مع عدم إغفالنا تدني ثقافة التخطيط المالي لدى الأفراد، إلا أن العامل الأول "تآكل الدخل الحقيقي للفرد بـ 55 في المائة من دخله الاسمي"، يظل صاحب الحضور الأبرز والأكثر تأثيراً في معادلة المواءمة بين دخله ومصروفه. سخرت المصارف المحلية جل طاقتها خلال السنوات الأخيرة لقروض التجزئة (القروض الاستهلاكية الممنوحة للأفراد)، وزاد تركيزها عليها بصورةٍ أكبر بعد اشتعال فتيل الأزمة العالمية نهاية 2008م، كونها القروض الأكثر ضماناً مقارنةً بتراجع الملاءة المالية للشركات ومنشآت القطاع الخاص، التي كلّفتها تكوين مخصصات تجاوزت 26 مليار ريال للفترة 2008 - 2012، فيما رفعت المصارف عزمها الائتماني تجاه الأفراد من 174 مليار ريال نهاية 2008، إلى أن تجاوز 307.4 مليار ريال بنهاية الربع الأول من العام الجاري. واجه أغلبية الأفراد منذ عام 2006 حتى الفترة الراهنة مصاعب معيشية جمّة، ومعقدّة جداً، بدأت مع انهيار قيم استثماراتهم في سوق المال بأكثر من 90 في المائة، وتحمّل شريحة كبيرة منهم أعباء سداد اقتراضهم من المصارف لأجل ذلك الغرض الخاسر، ثم بدأ رالي ارتفاع مستويات الأسعار (التضخم) من آذار (مارس) 2006 وتآكل ما تبقّى من دخلهم المتاح للإنفاق، ليضطرّوا لاحقاً لإعادة جدولة قروضهم المصرفية لمن استطاع، وشهد الاقتصاد المحلي خلال تلك الفترة ولا يزال زيادة ملحوظة في إعلانات (أسماء مجهولة) تسهّل عمليات الجدولة خلال أيّامٍ معدودة، مقابل رسوم محددة وعالية. لأن الحاجة إلى الاقتراض من قبل الأفراد أكبر بكثير مما وفّرته المصارف المحلية، بسبب القيود الصارمة عليها من قبل مؤسسة النقد، كان لا بد من حلول مهما كلّف الأمر! لقد وجد شريحةً واسعة من الأفراد أنفسهم وسط منطقة مكشوفة تماماً، اتسمت بانعدام خياراتها الائتمانية، التي بدورها خلقتْ (سوق ظل) فاتحة للشهية من قبل أطرافٍ أخرى! لتنشأ وتتكاثر أمام ارتفاع الطلب على سيولتها الإضافية كياناتٍ تجارية خارج نطاق القطاع المصرفي، رُخّص لها من قبل وزارة التجارة بالعمل تحت مظلة (نظام البيع بالتقسيط)، تجاوز عددها وفقاً للإحصاءات الشحيحة والمتحفّظة 2000 منشأة، وأخرى قدّرتها بأكثر من 5000 منشأة، زاد من إقبال المستثمرين عليها الطلب المتنامي (غير المرن) من قبل الأفراد على السيولة، مقابل فوائد سنوية تتجاوز 15 في المائة، وأحياناً تصل إلى أكثر من 30 في المائة! إذاً والحال تلك، أصبحنا أمام نظامين مصرفيين؛ الأول النظام المصرفي التقليدي الخاضع لإشراف ورقابة مؤسسة النقد، والثاني شركات ومكاتب التقسيط المنتشرة كالجراد في أرجاء البلاد، التي تندرج تحت مصطلح (نظام الظل المصرفي)، الذي عُد السبب الأخطر والأهم وراء انفجار الأزمة المالية العالمية 2008م في الولايات المتحدة، كان الاقتصادي Paul McCulley أول من ابتكر هذه العبارة (نظام الظل المصرفي) في عام 2007م في المنتدى المالي السنوي الذي استضافه بنك الاحتياطي الفيدرالي في Kansas City في Jackson Hole بولاية Wyoming. لاحقاً قام مجلس الاستقرار المالي (منظمة مؤلفة من السلطات المالية والرقابية من اقتصادات ومؤسسات مالية دولية كبرى) بوضع تعريف أوسع لمصارف الظل، مبيّناً أنّه: يشمل جميع الكيانات التي تقع خارج نطاق النظام المصرفي الخاضع للتنظيم وتؤدي الوظيفة الرئيسية التي تقوم بها المصارف، وهي الوساطة الائتمانية (أي أخذ أموال من المدخرين وإقراضها لمقترضين). وهو ما يشمل هنا وفقاً لحالتنا المحلية شركات ومكاتب التقسيط. أظهرتْ نتائج ثاني عملية مراقبة لمجلس الاستقرار المالي لفحص جميع عمليات الوساطة الائتمانية غير المصرفية في 2012م، شملتْ 25 منطقة اختصاص حول العالم، أن نظام الظل المصرفي في الولايات المتحدة الأمريكية استحوذ على 35 في المائة من إجمالي العيّنة، وقدّر المجلس حجم نظام الظل المصرفي العالمي بنحو 67 تريليون دولار مع نهاية 2011، أي ما يفوق حتى حجم الاقتصاد العالمي برمّته! وأنّ حصة نظام الظل المصرفي في بلدان العيّنة راوحت حول 25 في المائة من مجموع الائتمان خلال الفترة 2009- 2011. بإسقاط تلك النتائج على الحالة المحلية لدينا، ووفقاً لأحدث بيانات الائتمان المحلي المنشورة لدى مؤسسة النقد، فإن حجم الائتمان الممنوح من قبل تلك الشركات والمكاتب الناشطة في مجال البيع بالتقسيط يُقدّر أنّه تجاوز 346.5 مليار ريال بنهاية الربع الأول من 2013! وحيث إنّ أغلبية المقترضين من الأفراد، فإن إضافة ذلك المبلغ الهائل إلى إجمالي القروض الاستهلاكية التي يتحمّلها الأفراد، سيرفع الإجمالي (قروض النظام المصرفي + قروض نظام الظل المصرفي) إلى نحو 654 مليار ريال (نحو 25 في المائة من حجم الاقتصاد المحلي). إنّها أرقام باعثة للقلق الشديد، أن يصل حجم المديونية على الأفراد (أغلبيتهم من المواطنين) لهذه المستويات المرتفعة، ويزداد القلق إلى حدوده القصوى حينما نرى الاقتصاد والمجتمع يتأهبان لاستقبال قروض الرهن العقاري! فأين سنصل يا تُرى بعد تدافع بقية الأفراد على تسهيلات ذلك النظام؟! هل سيأتي اليوم الذي تتجاوز فيه المديونية على المجتمع سقف التريليون ريال قبل نهاية 2014؟ وهل من المتوقع أن يقف عند تلك المستويات؟ واقع المشهد المحلي تحت معطيات المرحلة الراهنة؛ يقول نعم نحن ماضون إلى تلك الأرقام الهائلة، وإنّه أيضاً لن يتوقف عن الصعود! فماذا بعد؟! إننا بمواجهة حقائق مرعبة لا بد (إلزاماً) التوقف عندها من لدن الأجهزة الاقتصادية والمالية المعنيّة لدينا (وزارة المالية، مؤسسة النقد، وزارة الاقتصاد والتخطيط، وزارة التجارة والصناعة، وزارة الخدمة المدنية، وزارة العمل)، والضرورة القصوى لاتخاذ ما يوقفُ زحفها (المدمّر) على مقدرات العباد والبلاد على حدٍّ سواء، وألا ننتظر وقوع الفأس في الرأس كعادة تلك الأجهزة، التي لا تبدأ بالتحرّك إلا في وقت متأخر، وأحياناً كثيرة يكون تدخلها غير مجدٍ، وأقل مما تقتضيه تلك المخاطر! والمخاطر هي: زيادة تآكل الدخل الحقيقي للأفراد، والانخفاض المستمر في مستويات الأجور، مقابل زيادة حجم المديونيات. اللهم إنّي بلّغت، اللهم فأشهد.
إنشرها