Author

التجربة العُمانية في الانكفاء على الذات

|
من بين شقيقاتها، ظلت هي عُمان مترفعة، بسكونها الخالد، وبسواحلها الطاهرة، بقلوب أهلها المعتادة على ترك ــــ حروب الآخرين ــــ لهم، في مكانها، في ظروفها، في أسبابها ودوافعها ومصالحها. وحدها هذه الشقيقة نأت بنفسها عن رهانات الكسب والخسارة في سباق الدول، ورجالها، لم تراهن يوما على ــــ رجل ــــ في جغرافيا بعيدة أو قريبة منها، ولم تستجلب ــــ أحزابا موالية ــــ إليها لأسباب تتصل برغبة التأثير في القرار السياسي لتلك الدولة مستقبلا هي دائما واثقة كل الثقة، أن من يبني جدران بيته جيدا، ينام دون قلق متزايد من هبوب الريح ولو كانت قوية. هي دولة حرصت على أن تنشئ قصة نجاح خاصة بها، خاصة بمكونها الإنساني المتنوع، والمتسامح مع هذا التنوع، والمحب لذاته الجمعية، قصة تتكون من ذوبان الكل في الجزء الصغير الذي يمثل الكثرة والقوة، الأصول الهندية، والعربية، والفارسية والإفريقية. كلها تذوب في هوية هذا الساحل الطاهر الهادئ الجميل. هي دولة جعلت من ''سحب حروب الآخرين للداخل'' جريمة كبرى، وجعلت ــــ الوعظ الديني ــــ يقف عند حدود التسامح، والدعوة إلى الحب والفضيلة والخير، والإصلاح بين الناس عند كل فتنة، ومع كل دم مراق. وأن الذين يجعلون من أنفسهم وحدهم ــــ كهنة معبد ــــ هذا الإسلام البسيط المتسامح الواضح، بوصفهم وحدهم ــــ دعاة ــــ كأنهم يتحركون بين عُباد اللات والعزى ومناة، وهبل! وكأنهم لو تركوا الناس وشأنهم لرجعوا إلى بيوتهم وبيد كل واحد منهم ــــ صنم ـــ من تمر ــــ أو صنم من رخام، يظل عليه عاكفا الليل كله. دولة جميلة. رسمت حياتها من خلال حدود ثابتة لم تحد عنها طيلة قصتها الرائعة الجميلة، رسمت ملامح شخصيتها من اللحظة الأولى. إن كان قدر الآخرين أن تكون لهم صراعاتهم وأطماعهم، وأحقادهم، وانتصاراتهم وهزائمهم.. فإن قدر عمان أن يكون لها انتصارها الحق على فقرها، وعوز شعبها، وتنمية إنسانها، وأرضه، وصناعة مستقبله الأفضل. في عمان لمن يزورها، تفرض عليك عقيدة أن تكون حرا كما تريد، وأن تعبد الله بالحق الذي تؤمن أنت به، وأن تقرأ ما يجري خارج حدود بلدك بالطريقة التي تراها ــــ أنت ــــ وأن تعتبر الوقائع بالصورة التي تحسبها هي الواقع وهي الحقيقة المطلقة. على ألا تفرض أيا من هذا كله على غيرك بالقوة، أو أن يكون هذا سببا لشيوع الكراهية، ونقض ميثاق الوطنية، والتعايش وتقبل المواطنين لبعضهم، ومحبتهم لبعضهم. في عمان.. كن مع هذا أو مع ذاك هذا شأنك، وهذه حرية تفكير وحرية اعتقاد. هي رؤيتك للحق، الذي اخترته لنفسك، والذي اصطفاه ضميرك، والذي سيحاسبك الله عليه، إلا أن بيئة الوعي لناسها الطيبين تحول دون ــــ سحب حروب الآخرين ــــ للقلوب، والعقول، والبيوت، والشوارع الخلفية للمدينة. لا طابور خامس، يستثمر تلك الحروب البعيدة، لتدمير حالة التعايش الأبدية في هذا البلد المتصف بالجمال، ولا يسمح لأي أحد أن يزرع ألغاما في طرق الآمنين، ولا أن ينشئ قنابل من الغازات السامة، بجوار المدن المأهولة بالسكان من خلال تقمص دور الضحية أو الشريفة التي اغتصبها عابر فسق! دائما هي بالغة الحكمة في الرؤية، ودائما هي ترقب كل ما يجري دون أن تجعل من ذاتها جزءا من الضحية، أو جزءا من المنتصر. دائما هي مشغولة بهذا الانكفاء على الذات، بوعي لو سقط العالم كله حولها، ستبقى هي واقفة على أقدام مواطنيها الذين خرجوا الآن بطيبات البحر، والعائدين من بساتينهم بأطايب الجنى، والواقفين على القلوب بكل حب وطهر وخير فيها ملتفين حول رايتهم الواحدة الموحدة الجامعة. حروب كثيرة، طحنت شعوبا في جوارها، وجعلت اقتصاد المتورطين حصرما، وهي تسهم في الحلول في حدود دولة لا تعاني عقدة البطولة، ولا مصابة بداء الزعامة على غير ذاتها الوطنية الجامعة. وحدها تشفق على الجميع وهي تحرث بيد، وتغرسا وتنثر البذور باليد الأخرى. الذي ينظر بهدوء، يقبض على خطاب ــــ الخبال الممسوس ــــ في جيرانها، سيجد أنه خطاب، يلبس وزر ما يجري في كل حرب على طائفة أو هوية، أو قومية بأكملها، وهم غالبا، لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل، إلا أنه المس وتلبس إبليس الرجيم، أو أجرة بيع أوطانهم على من يريدها الضحية التالية لحروب يقتل فيها الناس بعضهم بعضا، دون سبب ظاهر، ولا علة باطنة، اللهم إلا عمى البصيرة، وغيلان حقد أسود، لا يتريث عند النفس التي حرم الله هم الذين يلعنهم الله وملائكته والناس أجمعين، صناع الفتنة ومصدروها، القاتل يقتل نفسا بريئة واحدة، يحاسبه الله والعدل عليها، وصانع الفتنة يجعل الناس تقتل بعضها بعضا وكل قاتل هو يدافع عن نفسه أو مقتول! والدم يستجلب الدم بما لا يعصمه إلا الله. تعلموا من عمان الحكمة أيها الناس، تفلحوا. تعلموا منها.. لعلكم تهتدون!.
إنشرها