Author

اليومُ خمرُ وغداً أمر

|
نشرت من قبل مقالا عن البرنامج الغنائي الشهير ''عرب آيدول'' في نسخته الأولى بعنوان ''عذرا يا أهل الشام فنحن منشغلون بعرب آيدول''، قدمت من خلاله اعتذاري واعتذار الغيورين من أبناء العروبة والإسلام من المسلمين الفضلاء والمسيحيين الشرفاء لإخواننا في بلاد الشام على ما يقدمه إعلامنا من مهازل وتسفيه واحتقار للدم العربي والمسلم الذي يفترض منه أن يشاطر الشعوب العربية مآسيها، ويشاركها أتراحها، ويصدع بالكلمة والصورة حتى تنقشع الغمة وتنفرج الأزمة وتزول المحنة. وذكرت في حينه أنني لست ضد الفن وأهله، فالفنون ومنها الغناء تعد ميراثا للشعوب ورمزا للأمم تعكس حضارتها، وتبرز تاريخها، وتبين عمق ثقافتها. والفن ليس بالضرورة أن يكون ترفا أو ترويحا فكثيرا من الأهازيج، والأغاني والأناشيد لها مدلولاتها ومعانيها يبين بعضها حقبة تاريخية سطرت فيها هذه الأمة أو تلك نصرا مجيدا أو تحديا جسورا أو سبقا مذهلا أو قفزة حضارية. كما أن جميع الأديان والأنظمة البالية منها والحالية لم تنكر الفنون ومنها الدين الإسلامي الذي لم ينكر على الناس أي نوع من أنواع الفن إذا كان لا يخدش الحياء، أو يروج للرذيلة، أو ينشر الفاحشة، لأن إسلامنا أتي متمما لمكارم الأخلاق. لهذا أقول أنا لست ضد الفن وأهله والغناء وعشاقه والطرب ومحبيه، لكنني ضد إظهار البهجة والفرح المعسول إبان الأزمات والكوارث والمدلهمات والحروب والزلازل والفيضانات، فهذه الأحداث لا تدعو للفرح ولا تجلب الطرب والرقص والأهازيج، بل على النقيض تماما تجلب الهم والضيق وتدعونا إلى العودة إلى ذاتنا ودراسة أوضاعنا والتحقيق من سيرنا. وهنا أريد أن أتوقف وأهمس في آذان الذين ينظمون ويشاهدون برنامج ''عرب آيدول'' وما على شاكلته فأقول لهم: ما الذي يفرحكم؟ وما الذي يطربكم؟ وما الذي يبث النشوة في أرواحكم؟ أخبرونا حتى نشارككم الأفراح، ونشاطركم السرور، ونتبادل معكم التهاني. هل تطربكم الجثث التي ترمي في الطرقات في سورية والعراق كأنها سقط المتاع؟ هل يبهركم الفقر الذي يضرب أطنابه في بلاد العُرب - من الشام إلى اليمنِ إلى مصرَ فتطوانِ - لدرجة أن الأب يستيقظ في غسق الدجى ويستل ابنه من حجر أمه ويقتله خشية إملاق؟ هل النشوة التي تعتريكم سببها تلك المرأة العفيفة التي اضطرت قهرا أن تروج لبناتها وتبيع للناس الهوى من أجل لقمة عيش بالية؟ أم أظنه يطربكم الرجال الذين يبيعون أبناءهم علنا في سوق النخاسة من أجل دريهمات لا تكفيهم حتى نهاية عامهم؟ وماذا عن الذين يتجرعون الماء الممزوج بالصرف الصحي نتيجة الخلل في البنية التحتية والفساد الإداري والمالي الذي يضرب أطنابه في البلاد العربية والإسلامية منذ أزل؟ هل يطربكم ويشحذ هممكم الناس الذين يسيرون فرادى وجماعات وعندما يغلبهم النعاس ينام جزء منهم على الأرصفة ومن لم يجد له مكانا في اليابسة ينتظر حتى يرخي الليل سدوله ثم يتسلل مع من يعول إلى أحد القوارب والعبارات في دلتا مصر ليقضي ليلته ثم يغتدي مبكرا حتى لا يراه أحد فيرمي به في اليم؟ ماذا يفرحكم يا ''عرب آيدول'' ومن هم على شاكلتكم، هل رأيتم وسمعتم عن السياح من كل الأقطار وهم يتهافتون إلى بلاد العُرب لا لشيء إلا لممارسة الرذيلة في منظر يأباه العربي الجاهلي فكيف بالمسلم الأبي والمسيحي الشريف؟ هل هذه المدلهمات تجلب لكم الفرح؟ وتستحق منكم الغناء؟ وتأتي لكم بالطرب؟ وتستحق هز الأرداف والأطراف والخصور النُحلِ؟ والسؤال الذي قض مضجعي وسلب النوم من جفني: أين رجال الدين والمؤسسات الدينية في عالمنا الإسلامي أين هم من كل هذا؟ أريد أن أعرف أين رجال الدين الذين لا يفوت عليهم شاردة ولا واردة ولا صغيرة ولا كبيرة إلا يضعون أنوفهم فيها؟ أين من قضوا نصف أعمارهم ليس لهم مهمة في حياتهم إلا قيادة المرأة للسيارة؟ أين أصحاب فتوى رضاعة الكبير وما أثاروا حولها من ضجيج وجدل عقيم؟ أين الذين أقاموا الدنيا على أرجلهم وحرموا على المرأة بيع مستلزمات النساء في المحال العامة؟ وماذا عن أولئك الذين يقفون بالمرصاد لكل امرأة تسول لها نفسها ممارسة الرياضة من أجل المحافظة على صحتها وتنشيط حياتها؟ أين رجال الدين في عالمنا الإسلامي من الغواني اللاتي يتراقصن على أخشاب المسرح في الوقت الذي تنطلق فيه الصواريخ وتبيد قرية بأكملها في درعا وحماه وغيرهما؟ أين هم من اللحن الشجي، والصوت الرخيم، والوجه الحسن على مسرح ''عرب آيدول'' يعيدون على مسامعنا ذكريات الغناء العربي يتذوقون حلاوة اللحن حتى الثمالة؟ أين هم من لفحة الجِيد واهتزاز النهود يعرضون العهر والفن الرخيص في زمن يذبح الزعيم العربي شعبه بالسكاكين كما تذبح الشياه؟ كل هذه المتناقضات تجعل اللبيب جهولا، والحكيم أخرق، والصادق كذوبا. نرى الناس في رمضان الماضي تتداعى، وتلملم شتاتها، وتُجمع أمرها من أجل أن تقاطع شبكة (إم بي سي)، لأنها تجسد لنا شخصية رمز من رموز الإسلام – عمر بن الخطاب - إلا أننا نراهم مذهولين أمام ''عرب آيدول'' منبهرين بما يقدمه فلم يقاطعوه ولم ينتقدوه، ولم يقفوا ضده، ولم تتحرك في دواخلهم الغيرة، ولم يسألوا أنفسهم كيف نفرح في زمن النكبات؟ هل سكُر الناس أم بهم جِنةَ؟ أم يئسوا فعادوا إلى جاهليتهم، واستسلموا لواقعهم، وخرج أمورهم من بين أيديهم فنسوا أنفسهم وآثروا الفرح والرقص على جماجم موتاهم ولسان حالهم يقول اليومُ خمرُ وغدا أمر؟
إنشرها