Author

تحدي الموت في مجرى السيل

|
جاء أمر خادم الحرمين الشريفين الكريم بصرف راتب شهر لجميع العاملين في الدفاع المدني ليؤكد حرصه ـــ حفظه الله ــــ على تكريم كل من يحمي أبناء الوطن ويخاطر بحياته في هذا السبيل المشرف. هذه الأمطار التي كانت بمثابة إعادة الروح للأرض، أثبتت مرة أخرى أن هناك حاجة ماسة للحس والوعي الاجتماعي والوطني. كما أكدت أن هناك خطاً دقيقاً يفصل بين أن يشارك المواطن في جهود الحماية والوقاية المدنية، وأن يكون منتهكاً لقواعد التعاون، ومعيقاً أداء الجهات الرسمية واجباتها. أحتسب المتوفين شهداء عند الله، وأسأل الله الصحة والسلامة للمصابين. بقي 626 ألف شخص، هم مواطنو مدينة بوسطن الأمريكية داخل منازلهم لمدة قاربت 24 ساعة عندما أمرتهم السلطات المحلية بذلك، لتتمكن من مطاردة الشخص المشتبه به في تفجير الماراثون. شاهدنا جميعاً كيف تحولت المدينة إلى ما يشبه مدينة أشباح. خلت الشوارع من المارة وأغلقت المحال التجارية، وتوقف الجميع عن الحركة تماماً لهذه المدة الطويلة. مقابل هذه الصورة الرائعة لتعاون المواطن مع السلطات، شاهدنا تلك المناظر المسيئة لبلدنا التي كان أبطالها شبابا في عمر الزهور. تحدى هؤلاء الطبيعة وخالفوا التعليمات، ووضعوا أنفسهم في مجرى الخطر عندما توجهوا للوديان لمشاهدة حركة السيول الجارفة التي التهمت من الضحايا أعداداً لم تكن لتكون لولا قدر الله ثم هذا التهور الذي يسود مجتمعنا، ولا يمكن أن أعرف سببه أو أبرره. ما الفرق الذي جعل سكان مدينة كاملة يتنازلون عن حريتهم وحركتهم لأنها تضر بجهود البحث عن متهم، أي المصلحة العامة للمجتمع. وكيف سيكون الحال عندنا لو طالبت الأجهزة الأمنية أحداً أن يبقى حبيس منزله حتى تتمكن من التركيز في عملها. بل ما الذي جعل مواطنين يلتقطون كل صورة مشبوهة بكاميراتهم ويرسلونها بالإيميل للشرطة، ويفرغون كل ما لديهم من صور الماراثون لمساعدة جهود البحث. وجعل آخرين يصورون انهيار سد من مسافة لا تتجاوز خمسة أمتار ويضعون أنفسهم تحت رحمة تلك الكميات الهائلة من المياه الجارفة، ما الذي جعل أناساً يوزعون صور بكاء الآباء وركوب السيل من قبل آخرين على إطارات مطاطية تحدياً لكل قوانين الفيزياء وأساليب التعامل مع السيل الخطر. ذكرني رئيس تحريرنا الأستاذ سلمان الدوسري، بأيام حرب تحرير الكويت عندما كان أغلب الناس يصعدون، عند سماع صفارات الإنذار إلى سطوح المباني لرؤية سقوط صواريخ سكود، رغم علمهم أن هناك أمراً بالبقاء في الملاجئ، لأن بعضها قد يسقط على المبنى الذي يراقبون منه، أو حتى يحمل رأساً كيماوية يمكن أن تقتل أحياء كاملة. كنا وقتها أشبه بالمنتحرين الذين تسابقت القنوات الغربية على تصويرهم، وإبراز حجم ''جنونهم''. يأتي اليوم الذي يتجه أبناء نفس القوم ليطاردوا السيول في مجاري الأودية بانتحارية خطيرة تسيء أول ما تسيء إلى التزامنا الذي نشدد عليه باستمرار بالدين الإسلامي الحنيف، إنه يتعارض مع قول الباري جلت قدرته ''ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة''، ويتعارض مع قوله تعالى في آية أخرى ''يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم''. قبل أن يتعارض مع العقل السليم والمنطق الذي ميَّزنا الله به عن سائر مخلوقاته. أبرزت أحداث الأيام الماطرة الأخيرة أن هناك مشكلة كبيرة في تبني الشباب لمفاهيم السلامة والحماية والأمن، عندما نقارن ما يمكن فعله مع ما لا يجوز الوصول إليه من المغامرة والاستخفاف بالحياة والعوامل المؤدية لخطفها. هذا الكم الذي شاهدناه من المخاطرة والمجازفة ومحاولة تحدي الطبيعة والوقوف في وجه السيل الجارف أو العبث بحياة الإنسان الذي ليس من حق أي كائن، قضية مهمة لا بد من علاجها. يبدو أن تحليل مثل هذه الظواهر سيكون صعباً دون الرجوع إلى العلاقات الاجتماعية الأكثر شمولاً. قد يقول قائل إن هذه السلوكيات هي نتيجة التغاضي عن التجمهر الذي ينتشر عندنا في مواقع الحوادث، والتفحيط، الذي حول مثل هذه السلوكيات إلى ثقافة مجتمعية. أو لأن مقاومته كانت بأساليب تقليدية مثل اللوحات الإعلانية والإعلانات التلفزيونية، بعيداً عن وسائل أكثر تأثيراً، إلا أن المتجمهرين يتسببون في أخطار أخرى، فالبعض يحاولون إنقاذ المصابين، وهو عمل إيجابي، لكنهم يفعلون ذلك وهم لا يعرفون أساسيات الإسعاف الأولي، ليسببوا أضراراً لم يكن لها أن تحدث. لكن الأسوأ من تلك المخالفات والمجازفات، هو وقوف البعض عثرة أمام جهود الجهات الأمنية الرامية لإنقاذ أشخاص أو أسر علقت في السيل، أو حاصرتهم المياه في منازلهم أو سياراتهم. نعم، لقد حدث ذلك ومما علمت أن بعض الوفيات كانت نتيجة التجمهر الذي حال بين رجال الدفاع المدني والوصول لمن يحتاجون إلى خدماتهم. فإلى أين نمضي إن استمر هذا الكم من عدم المسؤولية واللامبالاة بحياة الناس. قد يتقبل الناس أن يعبث الشاب بحياته، مع أنها جريمة كبرى، لكن أن يعبث بحياة آخرين لا ذنب لهم سوى أن هناك من يريد أن يتفرج أو يتحدى السيل أو يصور مآسي الآخرين، فتلك جريمة يجب أن يعاقبوا عليها. أطالب اليوم الدفاع المدني بأن يجمع أكبر كم من الأدلة على أولئك الذين تصرفوا بهذه الطريقة غير الأخلاقية ويقيموا عليهم دعاوى لتسببهم في إعاقة عمل رجال الأمن وتسببهم في وفيات وإصابات لم يكن لها أن تقع لولا رعونتهم وتفضيلهم متعتهم مهما ألحقت من ضرر بمصالح الآخرين.
إنشرها