Author

هل برامج السعودة عمياء؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
أنْ تزعم أنّك تريد فعْلَ أمرٍ ما لأجل هدفٍ ما ''شيء''، وأنْ تختبر مقدرتك على فعْلِ ذلك الأمر ''شيءٌ'' آخر منفصل تماما عن الأوّل! ذلك أن الاختبار ستكون نتيجته حتمية؛ فإمّا أنها ستبيّن لك إمكانية تحقق الأمر الذي تريد فعله فتصل إلى هدفك، أو أنّها ستبيّن لك استحالة تحققه، وبالتالي اقرأ على هدفك المأمول السلام الكثير. آتي الآن إلى السياق الممتد لبرامج السعودة التي ما إن يغيب شهر، إلا ويأتي الشهر الذي يليه بقرارٍ أو برنامجٍ جديد من وزارة العمل! قد يكون امتدادا لما سبقه من برامج أو على أقل تقدير يأتي منسجما معها أحيانا، وأحيانا أخرى قد ينسفها غير آبه بها على المستويات كافة. غير أن وجه الشبه بين تلك البرامج المختلفة من حيث الانسجام؛ قد تراه يلتقي في الحوض الأخير للنتائج، الذي في الغالب ستجده لا يُسمن ولا يُغني من جوع! مثال ذلك قرار فرض رسوم الـ 2400 ريال السنوية على من لم يصل بمعدل العمالة السعودية في منشأته إلى 50 في المائة من إجمالي العمالة لديه، بغض النظرِ عن معدل السعودة الذي يخوله لدخول النطاق الأخضر. دعنا ندوّن هذا في خانة ''إرادة'' وزارة العمل، الهادفة لفرض السعودة على مختلف المنشآت العاملة في القطاع الخاص، البالغ عددها بنهاية 2012 نحو 1979.1 ألف منشأة ''1714.3 ألف منشأة صغيرة جدا، 234.6 ألف منشأة صغيرة، 26.2 ألف منشأة متوسطة، 3.3 ألف منشأة كبيرة، 807 منشآت عملاقة''، خضعتْ جميعها لبرنامج نطاقات باستثناء المنشآت الصغيرة جدا، جاء نحو 60.2 في المائة منها في النطاقين الأخضر والممتاز، فيما حلّ 39.8 في المائة منها في النطاقين الأصفر والأحمر. يعمل فيها حسب آخر بيانات وزارة العمل نحو 8.5 مليون عامل ''أكثر من 1.1 مليون سعوديين، ونحو 7.4 مليون غير سعوديين''، بمعنى أن معدل السعودة المتحقق يبلغ 13.4 في المائة! ولنتذكّر هنا أن مفعول قرار الرسوم يتعطّلُ عند 50 في المائة! حسنا؛ لنختبر هذه الإرادة ''القرار'' عبر نافذتين؛ الأولى: هل بإمكان القطاع الخاص مجتمعا تحقيقها عمليا على أرض الواقع أم لا؟ النافذة الثانية: قياس العائد والتكلفة بالنسبة للقطاع الخاص تجاه التزامه بتحقيقها من عدمه! بالنسبة للنافذة الأولى: وفقا لبيانات سوق العمل للقطاع الخاص بنهاية عام 2012، وعلى افتراض أن القطاع سيقوم فقط ''بإحلال'' العمالة السعودية محل العمالة غير السعودية، بمعنى أن حجم السوق لن يتغيّر إذ سيبقى عند 8.5 مليون عامل. وفقا لهذا السيناريو فإن على القطاع الخاص توظيف نحو 3.14 مليون عامل سعودي، للوصول بمعدل السعودة إلى 50 في المائة، ليتخلّص بالتالي من عبء الرسوم السنوية أعلاه! ولكن وفقا لبيانات أعداد العاطلين عن العمل لدى صندوق الموارد البشرية حتى نهاية 2012 هناك نحو 1.54 مليون عاطل سعودي وسعودية! أي أن الفارق يصل إلى نحو 1.6 مليون عامل، مطلوبٌ من القطاع الخاص الإتيان بهم من السماء أو من الأرض، وبأيّ صورة كانتْ للنجاة من عبء تلك الرسوم! قد يقول قائل: لا يهم هذا، المهم أن وزارة العمل نجحت في الضغط على القطاع الخاص لتوظيف العمالة السعودية، ووصلتْ بالبلاد والعباد للخلاص من عبء وصداع البطالة المؤرّق! أليس هذا هو الهدف النهائي؟ أنْ نتخلّص من معدل بطالة تجاوز وفقا لما سبق 39.3 في المائة! ومن يعلم فقد تعيد وزارة العمل نظرها في هذه الرسوم إن تحقق هذا الإنجازُ غير المسبوق؟ حسنا مرة أخرى، لننظر إلى الأمر من النافذة الثانية المرتبطة بالعائد والتكلفة في ميزان القطاع الخاص، هنا تُشير التقديرات الرقمية قياسا على الإحصاءات الرسمية أعلاه، ووفقا لتفاصيلها المنشورة على موقع وزارة العمل، إلى أن التكلفة المحتملة لتوظيف جميع العاطلين عن العمل من السعوديين بالكامل، ووفقا للحد الأدنى للأجور ثلاثة آلاف ريال شهريا زائد حصّة التأمينات الاجتماعية، يُقدّر أن تصل فاتورة أجورهم السنوية لنحو 63.9 مليار ريال! ستضاف إلى فاتورة الأجور السنوية التي يدفعها في الوقت الراهن. وماذا إن لم يفعل ذلك؟ إذًا سيكون ملزما بدفع تلك الرسوم المقررة من وزارة العمل، التي قد تتجاوز بقليل سقف 7.5 مليار ريال ''11.8 في المائة فقط من تكلفة الالتزام بالقرار''. يبدو من الآن واضحا جدا ما هو القرار الذي ستّتخذه منشآت القطاع الخاص. قمْ الآن بوضع النافذتين أعلاه كعدستي نظارة لترى جيدا كامل الصورة! فبدونها ستبقى العيون ''عمياء''. ابتسم أيّها القطاع الخاص فها هو الأمر قد بدا هيّنا عليك! ولن أخبرك أو يخبرك غيري من أين ستأتي بقيمة فاتورة تلك الرسوم الهيّنة، بل قد تزيد هوامش أرباحك بفضلِ ما ستُقدم عليه. ها هي المشكلة قد حُلّتْ؛ القطاع الخاص رابح، وصندوق الموارد البشرية رابح أيضا، أمّا من خسر وتحمّل تكلفة تلك الأرباح ''العاطل، المستهلك'' فعليه الاستمرار فيما اعتاد عليه من قبل؛ الصبر والانتظار. سأخبركِ يا وزارة العمل في المقال القادم من أين تؤكل الكتف؟ وذلك بما يقتضيه الأمر عمليا بتحقق المنفعة الحقيقية للاقتصاد الوطني والمجتمع والعمالة الوطنية على حدٍّ سواء، وليتكِ والله تستمعين لي هذه المرة فقط.
إنشرها