FINANCIAL TIMES

تكلفة اختلال ميزان القوة في آسيا ستكون باهظة

تكلفة اختلال ميزان القوة  في آسيا ستكون باهظة

هناك ثلاثة أمور كبيرة تجري في شرق آسيا، أكثرها بروزا وإحداثا للاضطراب هو صعود الصين. والثاني انبعاث قومية منافسة وتقوِّي بعضها بصورة متبادلة، خصوصا في اليابان. والأخير هو عودة الولايات المتحدة قوة آسيوية مقيمة. ثم هناك الخطورة الكامنة في عدم القدرة على التنبؤ بسلوك نظام كيم جونج يون في كوريا الشمالية. إن ديناميكيات هذه الاتجاهات العامة، والصدامات بينها، ستكون العوامل التي تحدد المسار بين الحرب والسلم في منطقة تعتبر من أكثر مناطق العالم نشاطا، وأكثرها احتمالا للاشتعال. بعد أن قضيتُ بضعة أيام في سيئول أستمع إلى صناع السياسة والباحثين من البلدان صاحبة العلاقة، أجد أن من غير السهل عليَّ أن أقول: إني ممتلئ بالتفاؤل. هذا الأسبوع عقد معهد آسيان، وهو مركز أبحاث للسياسة الخارجية في كوريا الجنوبية، مؤتمره السنوي. وكان موضوع المؤتمر ''الاضطراب العالمي الجديد''. وأكد المنظمون أنهم اختاروا العنوان قبل فترة طويلة من الحركات والاهتزازات النووية الأخيرة التي أثارها كيم. وحتى من دون ذلك التهديد، تشعر هذه المنطقة بأنها غير مأمونة استراتيجيا مثلما أنها قوية اقتصاديا. وينبغي القول: إن أهل سيئول لا يتصرفون وكأنهم يعيشون في ظل هجوم وشيك. وقد أطلقت وسائل الإعلام الدولية التي كانت مستثارة فوق الحد، نذرا حول تهديد وشيك على نحو يفوق كثيرا شعور أهل سيئول الذين يعيشون ضمن مرمى مدفعية كيم. فقد اعتاد أهل البلاد على هذه الخطابات النارية، حتى وإن كان الزعيم الكوري الشمالي يبدو أكثر اضطرابا من سابقيه. ومصدر القلق الحقيقي والعميق هو حول ما سيحدث في حال استطاعت بيونج يانج تركيب رأس نووي على أحد الصواريخ. وبالنظر إلى مخاطر أن تكون هناك آثار جانبية لأي نزاع في شبه الجزيرة الكورية وأن يتحول إلى صراع واسع، ينبغي أن يكون هذا الأمر مقلقا لبكين مثلما هو مقلق لسيئول أو واشنطن. ومن أجل الإنصاف أقول: إن الدبلوماسيين الصينيين لا يخفون شعورهم بالإحباط من كيم المنفلت من عقاله. لكن نفوذ بكين محدود. والغربيون الذين يزورون بيونج يانج معروف أنهم كانوا يرون عداء عميقا ضد الممول الصيني لكوريا الشمالية مثلما يرون العداء ضد الولايات المتحدة. وبالنسبة للوقت الراهن قررت بكين أن العيش مع كيم ربما يكون أفضل من البديل الأكثر ترجيحا، وهو الانهيار التام لنظامه وإعادة توحيد شبه الجزيرة. وترى الصين أن هذا من شأنه أن يعطي الولايات المتحدة موطئ قدم - وربما يكون عسكريا - على حدودها. لذلك ترى أن من الأفضل البقاء مع كيم مع رجاء إبقائه تحت سيطرة معقولة. ومن غير الواضح نهائيا أن هذا الكلام منطقي من الناحية الاستراتيجية. ففي الفترة الأخيرة أشار صوت أو صوتان ضمن نخبة الحزب الشيوعي إلى أن نظام كوريا الشمالية أصبح يشكل عبئا على الصين. لكن عدم اتخاذ إجراء يظل دائما أسهل من التغير، بالتالي الأصوات الرافضة تتعرض للإسكات. ورغم جميع مشاعر الضيق والتبرم، فإن تسليم كوريا الشمالية من شأنه أن يرسل علامة على الضعف. ولم تقم الصين قط بالإفصاح عن طموحاتها الأوسع، وتفضل الالتزام بمقولتها الأساسية حول ''صعود سلمي'' بصورة فريدة. لكن هناك حكاية مختلفة تروى من خلال الصعود الحاد في الإنفاق العسكري، والنهج المتشدد الجديد نحو النزاعات الإقليمية مع جيرانها، خصوصا في بحري الصين الجنوبي والشرقي. والتقييم الهادئ المنصف سيقول: إن طموح الصين أن تبني هيمنة سياسية وعسكرية، إلى جانب الهيمنة الاقتصادية، في ساحتها الخلفية. ولا ينبغي لهذا أن يكون مفاجئا لأي شخص. فالهيمنة الإقليمية هي ما تسعى إليه القوى العظمى - خذ مثلا ادعاء الولايات المتحدة السيادة على نصف الكرة الغربي، كما جاء في مبدأ مونرو. لكن نتيجة ظهور منهج أكثر جزما من جانب بكين، كان الارتياب والمقاومة بين معظم جيرانها. إن الخوف الشعبوي من الأجانب الذي نراه عبر فضاء المدونات اليومية على الإنترنت في الصين يُذكي جذوة القومية في بلدان أخرى. وهذا بدوره يجعل النزاعات البحرية التي طال عليها الأمد تبدو أكثر خطورة بكثير. وأحد الآثار لذلك هي دفع دول مثل فيتنام والفلبين للتقارب مع الولايات المتحدة. وفي سيئول يؤدي التهديد من الشمال الكوري، المدعوم من بكين، إلى أن يقترح عدد من كبار السياسيين على واشنطن أن تعيد نشر أسلحتها النووية التكتيكية عبر شبه الجزيرة. وإذا استطاعت كوريا الشمالية فعلا تطوير قنبلة يمكن إطلاقها، فلماذا لا تفعل كوريا الجنوبية ذلك؟ وفي اليابان اتخذت حكومة شينزو آبي موقفا قوميا أثار حفيظة الولايات المتحدة وأغضب كوريا الجنوبية. إن خلافات طوكيو مع بكين حول جزر سنكاكو ''التي تعرف في الصين باسم دياويو''، ومع سيئول حول جزر دوكدو ''تاكشيما في اليابان'' اشتبكت بصورة سيئة مع نزعة رجعية واضحة من جانب حكومة آبي حول عمليات الاحتلال اليابانية للصين وكوريا في الحرب العالمية الثانية. والزيارات التي يقوم بها كبار المسؤولين اليابانيين إلى نصب ياسوكوني التذكاري أثارت غضب بكين وأشعلت العداوات القديمة مع كوريا الجنوبية. وعلِقت الولايات المتحدة بالمشكلة. فالأهمية المحورية التي يعلقها الرئيس باراك أوباما بقوة بالغة على آسيا كان المقصود منها تأكيد أداء دور الولايات المتحدة باعتبارها قوة التوازن في شرق آسيا. والهدف هو طمأنة حلفاء واشنطن التقليديين وردع النزعة التوسعية الصينية. وحتى الآن يظل الأمر منطقيا حتى لو كانت هذه الاستراتيجية تلقى استقبالا جليدياً في بكين. لكن ما تخشاه إدارة أوباما الآن أن ينظر آبي إلى ضمانات المعاهدة الأمريكية على أنها درع تستطيع من ورائه مواجهة بكين في بحر الصين الشرقي. هذه هي إذن الصورة: أن تكون الصين أكثر جزما وتصميما، واليابان أكثر رجعية، والعدد الذي لا يحصى من النزاعات الإقليمية، وجدال غاضب حول التاريخ، والولايات المتحدة الملتزمة بتقييد الصين، وتقييد كوريا الشمالية، وتثبيط اليابان عن استثارة أي صدام غير ضروري. لقد سمعتُ مهندسي السياسة الأمريكية يصفون هذا الوضع بأنه توازن قابل للاستدامة. لعل ذلك من خيالي، لكن يبدو عليهم دائما أنهم يتوقعون حسن الحظ.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES