Author

الوجيز في تاريخ طارق عزيز

|
ولمن أراد التعرف على المزاجية المخلَّة في تفسير التاريخ، وتغيير وقائع يعرفها الجميع، وتوزيع الاتهامات هنا وهناك دون ضابط، فليتابع مجموعة حلقات التاريخ التي بثتها قناة العربية من خلال علي الدباغ المتحدث الرسمي باسم الحكومة العراقية سابقاً، وهو رجل سياسي أثبت أنه أبعد ما يكون عن العمل الصحافي أو إجراء حوارات من هذا القبيل. من يشاهد مجموعة المقابلات يستنتج أنها غير مهنية ولم تجب عن أسئلة مهمة، بل إن أغلبها كان عبارة عن تمثيل دور تلميذ يسأل الأستاذ. فبالإضافة إلى رداءة المحتوى والتدليس الواضح في وقائع تاريخية يعرفها أكثر من شاهدوا الحلقات. سيطر على الحلقات مجموعة من التلفيقات التي لم تعد تنطلي على المشاهد، بل إنها لم تنطل في الأساس، لكن الناس كانوا يظهرون تصديقها خوفاً من العقوبات. يبدو أن طارق عزيز وهو السياسي المحنك أصبح بعيداً كل البعد عن الواقع، أو أنه لم يخرج من قوقعته التي وضعه فيها النظام. أكبر عيوب الأنظمة الشمولية الدكتاتورية هو ما يمكن تسميته "جنون العظمة"، التي تجعل الواحد منهم يؤمن بغباء كل الناس ما عدا شخصه "الكريم". ومن ظن أنه أذكى من الآخرين فهو أغباهم. أعود إلى المحتوى الفاحش الكذب الذي استنبطت منه مجموعة من الأهداف التي توخاها وزير الخارجية، ومنها: ــــ محاولة إبعاد نفسه عن كل السلوكيات الإجرامية والقتل والتشريد الذي سيطر في أيام صدام حسين. فهو يدعي أن السيد الرئيس كان يتخذ قراراته بنفسه، سواء الدخول في حرب مع إيران أو قتل الأكراد بالكيماوي أو أحكام الإعدام التي كانت تنفذ لأسباب سياسية أو "أيديولوجية" أو حتى بسبب خلافات أسرية. ــــ استمرار محاولة تلميع صورة صدام حسين حتى ــــ بعد موته. قد يكون هذا من قبيل الدفاع عن سلوكيات طارق عزيز واستمراره عنصراً أساسياً في المنظومة السياسية والحزبية البعثية، وقد يكون من قبيل عدم كشف ما يمكن أن يتخذ وسيلة لرفع دعاوى قضائية على عزيز نفسه. ـــــ العمل على كسب تعاطف الناس بسرد أحداث لم تقع أو عكس مسار أحداث إجرامية أو تبرير مواقف وقرارات من قبيل الدخول في حرب مع إيران، وغزو الكويت، باستخدام التهويل والتدليس الواضح. يدرك طارق عزيز أن وضع العراق اليوم أسوأ من حالها أيام صدام حسين بسبب الطائفية وضعف الحكومة وفقدان الهيبة السياسية والسيطرة الإيرانية التي حاول عزيز أن يلمح لها أكثر من مرة، لكن بطريقة دبلوماسية ذكية. هذا الإدراك للحال المتردية، جعله أكثر قدرة على تمرير الكثير من المقولات التي وقف أمامها المحاور موقف الضعيف ولم يتمكن من تحديها أو مواجهتها بوقائع حقيقية. معلوم أن طارق عزيز من الذكاء بدرجة جعلته قادراً على أن يبقى في منصبه ويسيّر السياسة الخارجية ويتفاوض باسم صدام مع أعتى السياسيين؛ ولهذا فليس من الصعب عليه أن يواجه شخصاً غير متخصص يحاول أن يضمن استمرار الضيف في السرد. قد يكون سلاح طارق عزيز الوحيد في ضمان حبك القصص بطريقته الخاصة، هو إعطاء الانطباع أنه يمكن أن يخرج من المقابلة في أي وقت، ومن هنا سيطر على المقابلة والمحاور ووجههما بالطريقة التي يحقق بها غايته. سرد طارق عزيز أكاذيب من قبيل اعتداء إيران على العراق الذي جعل صدام يرد على الاعتداء. الكل يعلم أن صدام كان يتخذ من الحرب مع إيران وسيلة لكسب مزيد من الدعم الشخصي والاقتصادي والسياسي. بل إنها كانت وسيلة لابتزاز دول الخليج كافة عندما سمَّى العراق وقتها البوابة الشرقية للعالم العربي. يكذِّب تلك الدعوى، ما حدث عندما وجد صدام أنه كان ضحية خدعة أمريكية استهدفت استمرار الحرب بين الدولتين مع ضمان عدم تفوق فريق على الآخر بما يحقق التدمير المتبادل مادياً وسياسياً ودينياً وطائفياً، ولا أدل على ذلك من قضية إيران ـــ كونترا التي كشفت كم الغباء السياسي لدى الدولتين. عاد طارق عزيز لتبرير مواقف سيده عندما استخدم السلاح الكيماوي ضد الأكراد في حلبجة. كان تبرير طارق عزيز أغبى من أن يمر على أحد. قال عزيز إن إيران استخدمت الغاز الكيماوي ضد سكان هذه القرية، ثم استخدمها صدام. وفات على المحاور أن يضغط للوصول إلى الحقيقة التي كشفها العالم كله. قضية غزو الكويت كانت ـــ كما يعلم الجميع ـــ قمة الفشل السياسي لصدام. فقد كشفت عن وقوعه ضحية للسياسة والخداع الأمريكي مرة أخرى، عندما أكدت له السفيرة الأمريكية أن الولايات المتحدة لن تتدخل في حال رغب صدام في استعادة حقوقه النفطية من الكويت. كما كشفت عن أن حربه مع إيران لم تكن لغرض أخلاقي أو سياسي مبرر، وإنما كانت فعلاً لابتزاز دول الخليج وكبت كل محاولات الإطاحة بحكمه، وهي وسيلة سياسية معروفة في محاولة البقاء في السلطة من خلال تجريم كل من يقف في وجه الوحدة الوطنية أثناء الحرب. تحتوي المقابلة كثيرا من المغالطات والخداع، وهي هدية مني للصداميين الجدد الذين يترحمون على طاغية وضع دولته وجيرانه في أزمات متتالية ومصائب اقتصادية، ودمر حركة الإعمار والبناء بالتركيز على الحرب والفناء. بل إننا عشنا أكثر من 19 عاماً في أزمة اقتصادية كبرى بسبب نزوات وطموحات دكتاتور.
إنشرها