Author

أخبار مبللة بالماء

|
خلال القرن السادس عشر كان هناك مئات الصحافيين الجائلين يجوبون أرجاء أوروبا لبيع الأخبار مقابل عملات معدنية. إذا لم تستيقظ باكرا لن تستطيع أن تحجز لك مكانا على جسر ريالتو في البندقية بإيطاليا وتسمع الأخبار طازجة من الصحافيين مبللة بصوت هدير المياه، التي تتهادى أسفل الجسر بغرور. كانت حديقة التويلري الشهيرة في باريس مسرحا للصحافيين الجائلين، الذين يأتون من أرجاء فرنسا؛ ليذيعوا للجمهور الأخبار بمقابل. بعض الجماهير كانت تنام بجوار الحديقة الشهيرة أو بمحاذاة ميناء هامبورج بألمانيا؛ لضمان الحصول على أخبار جديدة من حناجر الصحافيين. من الصعب جدا أن تعثر على مكان مناسب أمام منصة الصحافي إذا لم تبذل مجهودا استثنائيا لانتزاعه. كان العديد من الأوروبيين يتكبدون وعثاء السفر للظفر بخبر. يدفع البعض جزءا كبيرا من دخله الأسبوعي؛ لكي ينال نبأ ولو صغيرا. ازداد عدد الصحافيين الجائلين في أوروبا إلى نحو 15 ألف صحافي جراء تهافت الجمهور وإقبالهم عليهم. لقد كانوا وسائل الإعلام المعاصرة، وقتئذ. كانوا مصدر القلق والتوجس والتسلية والبهجة. شهدت اليوم المنصات الإخبارية تحولا جذريا عما كانت عليه في القرن السادس عشر. لكن ما زالت غريزتنا تجاهها لم تتغير. ما زلنا جائعين تجاه الأخبار ما صغر منها وما كبر. نفتتح حواراتنا بـ "أخبارك؟"، منتظرين إجابة تسد رمق فضولنا. بيد أنه تغير شيء مهم .أصبحت لدينا خيارات كثيرة؛ للحصول على أخبار من مصادر ووسائل متفرقة. لم يعد مألوفا أن تشاهد من يدفع ثمنا باهظا للظفر بنبأ عام في ظل توفر بدائل متنوعة حتى لو بدت أقل موثوقية. لا أعتقد اليوم أن فرنسيا مستعد للنوم على رصيف متاخم لحديقة التويلري لمعانقة خبر ما، في حين بوسعه أن يناله مرفقا بصوت وصورة عن طريق صحيفته الفرنسية المفضلة التي يتصفحها عبر هاتفه المتحرك. انقراض الصحافيين الجائلين في أوروبا يدعونا لإعادة التفكير في صناعة الإعلام الحالية في مؤسساتنا الإعلامية العربية التي ما زال معظمها حائرا إزاء الطفرة السايبرية. لا شك أنه لا جدال أن الأخبار ستظل مطلبا دائما لكن طريقتنا في الحصول عليها تتغير. انتبهت الكثير من المؤسسات الغربية إلى استثمار التقنيات الجديدة وتوظيفها عبر إنشاء أستوديوهات ووحدات للتصوير الخارجي، وإنشاء أقسام جديدة لبث أحداث مصورة مباشرة ومسجلة، ومدونات تنقل كواليس الأحداث، ناهيك عن إتاحتها الفرصة لكتابها للتعليق المباشر على الأحداث المهمة، حتى لا تفقد بريقها وجمهورها، وتصبح أثرا من بعد عين. لقد أصبح المتلقي الذي يقرأ لقاء مع قاض في صحيفة "الجارديان" البريطانية "النسخة الورقية" مثلا يستطيع أن يشاهده مصورا على موقعها ويقرأ تداعياته وأبعاده في مدونة محررها في موقع الصحيفة، كما يقرأ تعليقا على اللقاء من أحد كتابها في الليلة نفسها. غياب هذا الدور للكثير من مؤسساتنا الإعلامية العربية جعلنا معتقلين في سجون الشائعات والاجتهادات والأنباء غير الدقيقة، التي تزدهر في مجتمعاتنا أكثر من أي مكان آخر. إن الجمهور اليوم لا يريد من وسائل إعلامنا أخبارا مبللة بأصوات هدير الماء كالتي كان يسمعها على جسر ريالتو، أو تلك التي ينقلها لنا كبارنا في المجالس. يريدها ديناميكية وسريعة مليئة بالألوان والروابط والصوت والصورة والتحليل والتفاعل والدقة، إذا أرادت الحياة، وألا تلقى ذات المصير الذي واجه الصحافيين الجائلين في أوروبا.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها