Author

سالت على أثرها الشوارع والأنفاق

|
أجزم أن الشعب السعودي من أكثر شعوب العالم عشقاً للمطر. أعرف صديقاً ما إن يشاهد البرق إلا ويركب سيارته ويتجه خلفه حتى يصل إلى حيث يتوقع أن يكون المطر، وغالباً تصدق توقعاته ـــ بناءً على الخبرة الطويلة. لعل الحاجة والثقافة المترسخة في الذهنية الجمعية والعلاقة الحميمة بين الإنسان والزراعة والرعي هي ما كوّن هذا الرابط الذي يتوارثه الأبناء عن الآباء. جسّد خروج خادم الحرمين الشريفين إلى الخلاء ليشاهد أثر الأمطار في روضة خريم، حيث يقضي إجازة داخلية، هذه الحالة الغرامية مع المطر الذي يرمز عندنا لتجدد الحياة. زرت كثيرا من دول العالم، حيث يتأفف الناس عندما يرون السحب تراكمت مؤذنة بقدوم المطر، قد يكون السبب هو الوفرة الشديدة التي تعيشها دولهم في كميات الأمطار، أو قلة أيام السنة التي يستمتعون فيها بدفء الشمس، الذي هو بالنسبة لهم رمز أكبر للحياة والنشاط. أستغرب ذلك التأفف رغم أن المطر يتوقف فتختفي آثاره. تختفي من خلال شبكات الصرف التي تنتشر في أفقر دول العالم ففي سريلانكا مثلاً، تمتد خطوط تصريف السيول تحت شوارع كولومبو لمسافة تتجاوز 100 كيلومتر. نحب المطر رغم أنه ينذر بتوقف حركة المرور، ويزيد من مخاطر التلوث وانتشار البعوض والحشرات التي تتكاثر حول مناطق تجمع المياه بعد الأمطار. أكثر الأمور سوءاً هو عدم تمكن البلديات من الإلزام بمناسيب معقولة للشوارع، لهذا تنتشر في الحي الواحد تجمعات المياه وتبقى لفترة غير قصيرة تعطل السير وتسبب الخطر الصحي. يتوقع المراقب أن تكون الحالة أقل شيوعاً فيما يمكن أن نسميها ''المشاريع المليارية''. المشاريع التي تبدو في الأيام العادية مفخرة وقمة في الجمال، ثم ما تلبث أن تتحول إلى مدعاة للقهر والغضب والتندر في المجالس ومواقع التواصل الاجتماعي، بسبب ما يحدث فيها إثر هطول بضعة ملليمترات من الأمطار. انتشرت مقاطع تكشف عن أن مادة الجدران الجانبية لأنفاق طريق الملك عبد الله مصنوعة من البلاستيك بدلاً عن الحجر الذي يتوقعه كل من رأى أو سمع بالمشروع، جاءت أمطار خفيفة لتكشف واقعاً مؤلماً آخر وهو تسرب المياه بغزارة من فتحات الإضاءة في أحد أنفاق الطريق الذي انتظره المواطنون أكثر من أربع سنوات، وهي بلا شك صدمة لكل من تابع تكاليف ومواصفات وطول مدة تنفيذ هذا المشروع. أرجو أن يكون الطريق في فترة الاستلام الابتدائي؛ ما يجعل أمطار الأمس نعمة كشفت هذه العيوب، لتعطي الجهة المتعاقدة الفرصة لمحاسبة المقاول وتكليفه بإصلاح العيوب التي كشفها المواطنون التي تكشفها عمليات الفحص التي يجب أن تنفذ قبل الاستلام النهائي للمشروع. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فقد استرجعت وأنا أكتب هذه المقالة المدة الزمنية الكبيرة التي استغرقها تنفيذ المشروع. حال التعثر التي يلاحظها كل منا في المشاريع التي تنفذها البلديات ـــ على وجه الخصوص، أصبحت من المساوئ التي لا بد أن يُتخذ إجراء حازم فيها. أسهم تعثر تنفيذ كثير من المشاريع الموجودة في المدن التي هطلت فيها الأمطار، في إيجاد تلك المستنقعات التي ميزت أغلب، إن لم يكن كل التحويلات التي أصبحت جزءاً من حياة المواطن. بل إن كثيرا من الناس يدعو صباح كل يوم أن تبقى التحويلات على حالها، وألا يفاجأ بتحويلات جديدة. هذا الأثر الجديد جعل البلديات تقع في حيرة من أمرها.. فأين تبدأ عمليات شفط المياه؟ استخدم الأغلب الحل الأكثر ملاءمة ''في نظرهم''، وهو مبني على تقدير شخصي لا أكثر، حيث يتم التخلص من تجمعات المياه حول منازل جميع مسؤولي البلدية والمحافظة والدوائر الحكومية، ومن ثم التوجه إلى المواقع العامة التي تؤثر في حركة سير المرور، ثم المناطق الأخرى التي تكون إما قد جفت أو تحولت إلى مفرخة للبعوض والحشرات، ولا نحتاج إلى ذكر شواهد لأن الكل يعرفها، بل إن السوق تتفاعل مع الأمطار، حيث ترتفع الأسعار مع زيادة الطلب على المبيدات الحشرية، خلال الأيام التي تلي توقف الأمطار، وهي مرتفعة أصلاً. السؤال المحير هو: إلى متى تستمر هذه المخاطر في تهديد حياة المواطن في كل مرة يتاح له أن يفرح فيها لربع ساعة بهطول الأمطار، إلى أيام أو أسابيع من المعاناة المرورية والخوف من الأمراض التي قد تنتج من تجمعات المياه. هذا السؤال يجب أن يجيب عنه مسؤولو البلديات والمياه وصحة البيئة. تجاوزت قيمة المشاريع القائمة والجديدة لتصريف مياه الأمطار ودرء أخطار السيول وتوفير المعدات والآليات ثمانية وثلاثين مليار ريال في ميزانية العام الحالي، وأضعافها صرفت خلال الأعوام السابقة. تتجاوز هذه المبالغ وأعداد المشاريع التي تعلن في كل ميزانية لشبكات تصريف السيول ما تخصصه دول تواجه أخطار السيول كل يوم. لكن أثرها يضمحل ''مطرة'' بعد الأخرى، وتزداد المعاناة والخوف كل عام. كل هذا يعني أننا في حاجة إلى معلومات واضحة وشفافة عن مآل هذه المبالغ وكيف لم تسهم في التخلص من المشكلة إنما زادتها تعقيداً. دأب تلفزيوننا العزيز على الاحتفاء بالأمطار ولعل أبرز صور ذلك الاحتفاء هي نشر صور تعطل السيارات وتأثر حركة السير في المدن، وتلك العبارة المشهورة التي تقول ''سالت على أثرها الأودية والشعاب''، التي من الأولى أن تتحول إلى: سالت على أثرها الشوارع والأنفاق.
إنشرها