Author

ارفعْ غطاءَ البئرِ.. واخرجْ

|
«تأملات الإثنين» .. قبل الأمس كنت في لقاء مع تلميذاتِ وتلاميذ جامعة القصيم - في كلية الإدارة والاقتصاد، وكان اللقاءُ عفوياً جميلاً، وزخـَرَ بمداخلاتِ العقول الشابة المليئة بالمعرفة، والمتشوّقة لمعرفةٍ أوسع. كنا نتكلم معاً عن معنى أن يعودَ الإنسانُ لنفسه وطبيعته وثقافته التي تشكل بيت وجوده الحقيقي، ورويتُ لهم قصةً واقعيةً عن رجلٍ كان يسير في شارع كبير في إحدى العواصم العربية، ثم فجأة صار يرقص بطريقةٍ هيستيرية، وظن الناس أن خَبَلاً مسَّهُ، أو تناول مخدّراً أو مكيّفا مضيّعاً للعقل، ويترنح ذات اليمين والشمال بضحكاتٍ عالية.. فتقاطر عليه المشاة وحاولوا أن يقيدوه عن الحركة. تقدم أحدهم وكان طبيباً نفسانياً وقال: "دعوني أتحدث معه". عرف الطبيبُ من الرجل أنه كان فاقدَ الذاكرةِ لمدةٍ طويلة ويهيم بالشوارع زائغاً تائهاً لا يعلم مَن هو ولا أين كان ولا ما يربطه بهذه الحياة. ثم فجأة تذكر نفسَه واسمَه، وتذكر عائلتَه وأهله وأصدقاءه وعرف بيته ومدينة مولدِه، فكان الفرحُ فوق الطاقة المعتادة لبشري، فكانت هذه الحركات التي تعبر عن فرح لا يُوصف ولا يعرف مداه، بالرقص والضحك والترنّح الهيستيري. وبعضنا مصابٌ بهذه " الأمنيزيا"- فقدان الذاكرة. وربما أسوأ من حالة ذاك الراقص في جادّةِ العاصمة الكبيرة.. لماذا؟ لأنها ليست من سبب خارجي كفقدان الذاكرة المرَضِي، بل من سببٍ داخلي، والسبب الداخلي هو نحن. نسمح مع الزمن بتسرُّب التشاؤم إلى قاع وجودنا جاراَ معه جوقته من اليأس والفراغ الروحي والاستسلام لسمومٍ، لأننا فتحنا أبواب أنفسنا لتسيل حرة متدافعة إلى دواخلنا، ثم يأسرنا هذا العالمُ المظلمُ المخيفٌ القلِقٌ ويستقر في جدران أعماقنا غارزاً مخالبه في جدرانها وأوعيتها ومجاريها. مع الوقت ندخل بكل وعينا هذا العالمَ ونشعر أنه عالمنا الوحيد، وألا حياة إلا هذا الحياة، ولا عالمَ إلا هذا العالم.. فنفقد ذاكرتَنا بالعالم الذي كنا نعيشه، العالم الذي فيه أمل وإرادة وفيه واقع الدفاع والصراع والمجابهة والتحدي ضد قسوة الأوضاع وضربات الظروف. ننسى أنه عالمٌ نجح فيه الملايين بالإصرار والعناد ضد طغيان القسوة، والإصرار على تلفع البياض، مهما كانت العواقب.. لأنهم يؤمنون أن اللهَ عادل حق ووضع لنا أهم آلة إعجازية في الكون وهي العقل المدرك، وغرس في كياننا أقوى نزعة بين كل المخلوقات، نزعةُ الإرادةِ الفاعلة. ينسون مَن أغلقوا على أنفسهم بعالمٍ من الإحباط واليأس والاستسلام لتيار الحياة ومَن يتحكمون فيه، أن بمقدورهم أن يقاوموا التيارَ، بل طبيعة الحياة هي المعاناة الإيجابية، الصراعُ ضد التيار، وما نجح ووصل إلاّ الذين قاوموا التيارَ الذي يتحكم فيهم ويذيب إرادتهم ويسحق قواهم العقلية. انظر سمك السلمون في مشهد من أعظم مشاهد المقاومة الباسلة لمتابعة الحياة والوصول إلى "مواطنه" الأصلية، وهو يقاوم أعتى وأحدّ الشلالات في ألاسكا حين تكون الشلالاتُ في فورة قوتها وفورانها الاندفاعي وفيها شرائح الجليد كأنصال السكاكين الحادة، والسلمون ليس فقط يقاوم التيار، بل يحاول أن يصعد بانتحارية الشلالَ الهادر، وفي هذه المحاولات تتفسخ جلودها من حدّة المقاومة ومع ذلك لا تقف المقاومة حتى تصعدَ أعلى التيار بمنظرٍ عجائبي استحالي لمعنى الإرادة والإصرار. لا أطلب من أحدٍ حدّة هذه المقاومة، ولكن لا ننسى أن طبيعة الحياة هي التحديّات والاستجابة لهذه التحديات، وليس الاختباء منها في بئر النفس المظلمة العميقة. وتذكروا القولَ إن السمكة الوحيدة التي لا تقاوم التيار هي تلك السمكة النافقة! نسمع كثيراً مَن يقول إن فلاناً ينظر إلى الحياة بمنظارٍ أسود، وأقول إن السوداويين لا يحتاجون إلى منظار لأنهم لا يرون العالم في الأصل، وإنما يرون وهماً هم صانعوه. كلما كانت التحدياتُ أقوى كان إنجازُ الإنسانِ أعظم وقويَت ملكاتُ الذكاء والحيلة في عقله، ونمت فتائلُ الإرادة الفاعلة لديه حتى تكاد تكون فتائل الفولاذ. ونجد أن ناجحين ونابهين طلعوا للدنيا، ووصلوا لمقامات شاهقة من أفقر بلاد الدنيا، من قلب أحلك الظروف الإنسانية، لأنهم رأوها تحديّاً، ولم يروها مصيراً. الآن علينا أن نهبط داخل نفوسِنا، ونعلن حملة نظافةٍ داخلية كبرى، ونزيل ما علق من كدَرٍ وقطعٍ شحميةٍ من التشاؤم والاستسلام والتردد والضعف. إنها الطريقة التي نستعيد بها ذاكرتَنا لعالَمٍ مضاءٍ بمصابيح الإيمان والعقل والإرادة.
إنشرها