Author

إصلاح سوق العمل .. نقطة «اللاعودة»

|
من حيث المبدأ، لا بد من امتلاك رؤية طموحة وهادفة. علما بأن كل رؤية تنطوي على تحديات وفرص. وإذا نظرنا إلى أي رؤية من منظور أنها مجرد مجموعة من التحديات، فإننا سنفشل. لكن إذا نظرنا إلى الفرص التي تختزنها الرؤى، فإننا سنكون في وضع أفضل للتغلب على التحديات المتزايدة التي نواجهها الآن أو في المستقبل القريب والبعيد معا. وفي الحقيقة؛ تزداد تحديات السعودية تعقيدا وتسارعا. ومن الأهمية إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي وتحويله إلى اقتصاد قائم على أساس النمو القطاعي. ذلك لأن الحلول المطروحة والمنهج السياسي وأنظمة الموارد المؤسساتية لا تسمح بإدارة تحديات البلاد بالفاعلية المطلوبة. ورغم تطوير وتحديث الاقتصاد السعودي، إلا أن اعتماده على إنتاج وتصدير النفط بات أكبر من أي وقت مضى. وجاءت زيادة حجم الاقتصاد السعودي إلى أكثر من الضعف خلال السنوات القليلة الماضية كنتيجة مباشرة، لارتفاع أسعار النفط ومعدلات إنتاجه. وقد تتحول معدلات النمو السكاني في السعودية إلى أفضلية أو إلى تحد مستقبلي. وهناك أعداد متزايدة من السعوديين المتعلمين لكن نسبة السعوديين العاملين في القطاع الخاص لا تزال ضئيلة جدا. بل لقد تراجعت هذه النسبة من 18 في المائة في عام 2000م إلى 12 في المائة فقط في عام 2012م. ويدور القطاع الخاص السعودي في حلقة مفرغة بسبب العمالة الوافدة التي تقبل أجورا متدنية التي تقلص مكاسب الإنتاجية وتنتج مرتبات غير تنافسية. بالتالي، هناك حاجة ملحة إلى تغيير نموذج تنمية البلاد، ولا سيما في مرحلة ما بعد الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة. ومع أن عامل الوقت بالغ الأهمية، إلا أنه لن يكون دائما لمصلحة السعودية. وتعد الإدارة الفعالة للأزمات سمة بارزة من سمات الماضي لكن تلافي الأزمات ما زال غير مضمون. ينبغي وضع أهداف محددة لجميع قطاعات الاقتصاد مع تعزيز القطاعات ذات معدلات النمو المرتفع. السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن إنجاز هذه المهمة؟ ينبغي للحكومة أن تضع الأهداف ومواعيد الانتهاء منها وتبدأ بالعمل على تحقيقها من خلال مقاربة من أعلى الهرم إلى أسفله. وفيما يلي نعرض بعض التحديات الرئيسية التي تستلزم اهتماما "خاصا" في آن واحد: إعادة هيكلة سوق العمل وتوفير الوظائف للسعوديين فقط يوفر الاقتصاد السعودي وظائف جديدة لكن نموذج التوظيف المتبع معيب. إذ تعاني السعودية مشكلة بطالة اجتماعية وأخرى اقتصادية وهيكلية ولا يمكن حل هاتين المشكلتين ببساطة، من خلال تعديل سياسة العمل. ونعتقد أن نموذج تنمية الاقتصاد السعودي خاطئ تماما لأنه جعل السعودية دولة ذات فائض بالقوى العاملة (بسبب الخلل في إدارة الهجرة) وذات قطاع خاص انتهازي وغير قادر على المنافسة. كما أن الاقتصاد السعودي لا يوفر الوظائف المناسبة للسعوديين، بالتالي، تذهب هذه الوظائف إلى غير السعوديين. وقد بُذلت جهود مكثفة لتقليص الفوارق في المهارات لكن هذه المسألة ليست صميم مشكلة سوق العمل؛ لأنها تتعلق بالأجور المتدنية وسياسات الاستقدام المفتوحة للعمالة الوافدة التي سادت خلال العقود الماضية. وقد تبيّن أن الأجور المتدنية في القطاع الخاص أدت إلى ابتعاد السعوديين عن هذا القطاع حتى وإن كانوا يتمتعون بالمهارات المطلوبة. لكن العمالة الوافدة تقبل بالأجور المتدنية. لذا، يتنافس السعوديون بشكل مفتوح مع الأجور السائدة في شرق آسيا. بالتالي؛ ينبغي تقليص الاعتماد على العمالة الأجنبية طبقا لأهداف محددة لا بد من تحقيقها على مدى السنوات العشر أو العشرين المقبلة. وستكون هناك دائما نسبة من العمالة الوافدة في القطاع الخاص السعودي لكن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار إطلاقا. ومع أن زيادة أجور القطاع الخاص قد تؤدي إلى زيادة الضغوط التضخمية، إلا أن الطلب الكلي على السلع الاستهلاكية سيزداد أيضا، وبعد فترة قصيرة، سيتكفل ميزان العرض والطلب بتخفيض الأسعار. وينبغي للإنتاجية - لا العمالة الوافدة ذات الأجور المتدنية - أن تكون المحرك الرئيسي لنمو القطاع الخاص. ولا يمكن تحقيق هذه الغاية إلا إذا بدأ القطاع الخاص بتقليص اعتماده على العمالة الأجنبية الرخيصة بصورة تدريجية. أما النسبة المنخفضة لمشاركة المرأة السعودية في الاقتصاد، فهي مسألة قيم وعادات اجتماعية ولا علاقة لها بسياسات العمل. وقد تُقبل المرأة السعودية على العمل عندما تصبح الأجور مرتفعة -هذا ما حدث في أوروبا والولايات المتحدة - فقبل الحرب العالمية الثانية كانت النساء تلتزمن بيوتهن، لكن بسبب ندرة العمالة بعد الحرب؛ بدأت الأجور في الارتفاع وأرادت الأسر وأرباب العمل أن تعمل المرأة وهذا ما أرادته المرأة نفسها أيضا. وينبغي لصنّاع القرار في السعودية أن يفكروا بشكل استراتيجي وأن يرصدوا القطاعات التي ستولد وظائف أكثر. وتعد السعودية اقتصادا يعتمد على الإنفاق المالي المكثف. كما أن قطاع الهيدروكربونات السعودي لا يوفر ما يكفي من الوظائف. ويعد قطاع الخدمات وقطاع التجزئة أحد القطاعات القليلة التي تتمكن من توليد وظائف والتي قد توفر توازنا صحيحا في الأجور وفرصا حقيقية لتدريب السعوديين بمواقع عملهم. وبينما يتم إصلاح سوق العمل السعودية، ينبغي إبقاء معدلات التوظيف في القطاع العام السعودي عند أدنى حد ممكن. وينبغي للقطاع العام ألا يكون الملاذ الأخير للتوظيف؛ لأن التمايز بين القطاعين العام والخاص لا يحفز الشاب على الاستثمار في التعلم. فعلى سبيل المثال؛ السعودية هي الدولة العربية ما قبل الأخيرة (ولا تتقدم إلا دولة قطر) في امتحانات المقارنة الدولية للأداء في مجالي الرياضيات والعلوم. ومن الواضح أن هذا التحصيل العلمي هو نتيجة للإعداد المعيب للشاب الناتج من مخرجات التعليم. وسوف يستلزم إصلاح سوق العمل إنشاء منظومة أمان اجتماعية لدعم المحتاجين وكما ينبغي تأسيس أنظمة فعالة لدعم الأقل حظا في المجتمع. بناء قطاع خاص أكثر شمولا مع نمو موجّه ينبغي للقطاع الخاص أن يصبح أكثر شمولا وأن يوفر وظائف لشريحة أكبر من المواطنين وتقليص عدد الوافدين غير المؤهلين. كما ينبغي دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، لكن التمويل ما زال عنصرا رئيسيا مفقودا. وينبغي للنمو القطاعي الموجه أن يصبح إحدى أولويات الدولة بالتعاون مع القطاع الخاص. ولن يكون اختيار القطاعات الصحيحة عملية سهلة، الأمر الذي يرجح إمكانية وقوع أخطاء. لكن ينبغي للسعودية أن تستفيد من أفضلياتها التي تتعدى الهيدروكربونات. فعلى سبيل المثال، قد يتم اختيار تقنية الطاقة الشمسية وتطوير تطبيقاتها نظرا لسطوع الشمس في السعودية طوال السنة، سيكون بإمكانها إطلاق برنامج واسع لاستغلال الطاقة الشمسية، لكن هذه الفكرة لن تكون مجدية إلا إذا ترافقت مع تحولات جوهرية في الثقافة والوعي والسلوكيات الاستهلاكية وسياسة الدعم بينما الكميات النفطية التي سوف يتم توفيرها في حالة استخدام الطاقة المتجددة ستباع بالأسعار العالمية. وهناك أيضا استغلال إمكانات السياحة الدينية كقطاع واعد وينطوي على مضاعفات مالية كبيرة للاقتصاد بمكرر وظيفي عال جدا. لكن النمو الاقتصادي لن يتحقق إلا عندما ينظر صناع السياسة إلى التغيير كجهد تفاعلي بين مختلف المؤسسات وعلى امتداد البلاد. وبعبارة أخرى؛ إن إصلاح سوق العمل ضروري لكن ينبغي تعزيزه من خلال النظام الصحيح للدعم المؤسساتي، بالإضافة إلى امتلاك قطاع خاص يعتمد نموه على تعزيز الإنتاجية لكي يحقق التوازن، بين أجور المواطنين والوافدين. وعندما يتحول القطاع الخاص السعودي إلى قطاع أكثر شمولا وقدرة على تقديم أجور عالية للمواطنين بما فيه الكفاية، فإن الشركات ستبدأ بتدريب المزيد من السعوديين. عندما تدفع أجورا زهيدة لن يختار السعوديون العمل لديك. لذا؛ سيكون هناك القليل من التدريب. وعلى سبيل المقارنة، تبلغ نسبة تدريب الشركات المحلية في السعودية لمواطنيها نحو 25 في المائة، بينما تبلغ 57 في المائة في دول شرق آسيا و40 في المائة في دول أوروبا الشرقية و53 في المائة في دول أمريكا اللاتينية و26 في المائة في الدول الإفريقية. في الحقيقة باستطاعة نظام التعليم أن يحقق نتائج أفضل لكن المشكلة ليست في نوعية التعليم، وإنما في طلب العلم من جانب الباحثين عن فرص عمل. ينبغي أن يتمثل الهدف البعيد المدى في تطوير نظام تعليمي متطور وسوق عمل قادر على الاعتماد على رصيد بشري وطني يتمتع بمهارات عالية، ولكن تحقيق هذا الهدف يتطلب تحولا جوهريا في ثقافة العمل والتأهيل المهني على مستوى المجتمع السعودي ككل. لذا؛ لا بد من إعادة توجيه الاستثمارات واتباع سياسات موجهة غايتها إنتاج سلع ذات قيمة مضافة عالية، لإيجاد دينامية قادرة على موازنة الأجور المرتفعة التي تناسب السعوديين. وينبغي للحكومة والقطاع الخاص أن يتعاونا لوضع استراتيجية للنمو لأن الحكومة لا تستطيع إنجاز هذه الاستراتيجية بمفردها، وكذلك هو الحال بالنسبة للقطاع الخاص. وينبغي لنموذج التنمية أن يكون أكثر توجيها. وتتمتع السعودية بما يكفي من الاستقلالية للقيام بدور المحفز و"عامل التغيير". وهناك الكثير من الأمثلة على الدول التي تقود نماذج نموها الاقتصادي بدعم من القطاع الخاص، مثل حالة كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان. لكن تبني أو استنساخ أي نموذج جاهز ليس بالعمل الحكيم إطلاقا لأن كل اقتصاد له خصوصيته الذاتية. أخيرا، نؤكد مرة أخرى عدم وجود أي نماذج مثالية، الأمر الذي يفتح الباب أمام ارتكاب أخطاء. وفي المقابل؛ لا بد من امتلاك رؤية ودافع ومرونة لتغيير المسارات عند اللزوم. مستقبل الطاقة ينبغي للسعودية أن تتحول من اقتصاد يعتمد بشكل مفرط على النفط إلى اقتصاد قائم على مصادر الطاقة المستدامة. ويمتاز الاقتصاد القائم على الطاقة المستدامة باعتماده على مصادر الطاقة المتجددة والناجعة اقتصاديا على المدى البعيد. وينبغي أن يكون الهدف استخدام جزء من عائدات النفط لتحقيق هذا التحول. كما ينبغي التركيز في هذا السياق على طريقة الدولة في استخدام عائدات النفط لإعادة هيكلة اقتصادها وليس لمجرد توليد إيرادات لخزانتها. وإذا تم استخدام عائدات النفط لزيادة إيرادات الدولة مع الاستغناء عن الدعم الحكومي، فإن المضاعفات المالية لباقي قطاعات الاقتصاد لن تتحرر. إذاً، لا بد من إطلاق العنان لقطاعات أخرى لكي تتمكن من استغلال الإمكانات غير النفطية. وبعبارة أخرى؛ ينبغي عدم النظر إلى الطاقات المتجددة في السعودية كمصدر لتخفيف أعباء الخزانة، وإنما كمصدر جديد للناتج الاقتصادي المستدام في مرحلة ما بعد النفط. وتمثل الهيدروكربونات أهم الموارد الطبيعية للسعودية. ولا يمكن الاستمرار في هدر هذه الموارد لفترة طويلة. ولا بد من إعادة هيكلة نظام الدعم الحكومي الموجّه للكهرباء والماء إلى المواطنين بحيث يستهدف المحتاجين للمساعدة فقط، بينما ينبغي رفع أسعار البنزين لكي تعكس أسعار السوق. ويمكن منح ذوي الدخل المحدود مساعدات مالية أو أشكالا أخرى من الدعم ضمن إطار منظومة شبكة أمان اجتماعية واسعة. وعلاوة على ذلك؛ ينبغي جعْل قطاع الطاقة المتجددة جزءا لا يتجزأ من مستقبل السعودية في مجال الطاقة. وينبغي وضع نسب مستهدفة يعمل على تحقيقها في السنوات العشر أو العشرين المقبلة. وتنفيذ هذه الاستراتيجية بالغ الأهمية لمستقبل الوطن. وينبغي استغلال الطاقة الشمسية على نطاق واسع في السعودية. إن الوضع الراهن أو السيناريو المعتاد لم يعد فعالا. وبموجب النسب الحالية لنمو الاستهلاك المحلي للطاقة، سينمو استهلاك السعودية الداخلي من الهيدروكربونات أكثر من الضعفين بحلول عام 2028. وبما أن نحو 93 في المائة من إيرادات الدولة تأتي من تصدير النفط، فإن مستقبل السعودية في مجال الطاقة ينبغي أن يحتل رأس قائمة أولوياتها. وحتى في الظروف الراهنة، ينطوي انتهاز الفرص المتاحة وإن كانت تكاليفها قد تبدو باهظة. فالنقل العام على سبيل المثال، لا يستطيع العمل بفاعلية ما لم تتوافر الحوافز الكافية لكي يستخدمه سكان السعودية على نطاق واسع، وينبغي للقطاع السكني أن يكون أعلى وأكثر كفاءة في استخدام الطاقة. فرض معايير معمارية عالية على الوحدات السكنية عامل حاسم، ففي الوقت الحالي تعاني نحو 70 في المائة من الوحدات السكنية في السعودية سوء العزل الحراري، الأمر الذي يجهد شبكة توزيع الكهرباء بسبب استخدام المكيفات بشكل مكثف. وكفاءة هذه المكيفات تساوي ثلث كفاءة تلك المستخدمة في الاقتصادات المتقدمة، حيث إن 65 في المائة من الاستهلاك المنزلي للكهرباء في السعودية يذهب إلى تشغيل هذه المكيفات. فالتقنيات متوافرة لكن ما زال من الضروري وضع الحوافز التي تشجع على تبنيها وعلى تطبيقها. ومن شأن تغيير خليط الطاقة أن يساعد في تلافي الطريق المسدود الذي نتجه إليه. في العادة، يتم اتخاذ القرارات والإصلاحات الاقتصادية الصعبة عندما تنشب الأزمات. ومع أن السعودية تمكنت من تلافي الأزمات، إلا أنه ينبغي لنا أن تكون قادرة أيضا على تغيير الاتجاهات عند اللزوم. فخصخصة القطاعات القابلة للتخصيص إصلاح مطلوب بإلحاح ولا يمكن تلافيه. لكن ليس من السهل تغيير سياسات وعقليات مَن يساهمون في عملية صنع القرار. ومن دون تغيير مؤسساتي؛ ستصبح المشاكل غير قابلة للحل. ومن خلال قراءة التاريخ العربي ودور الحكومات؛ فإن الإصلاحات أدت إلى المركزية في السلطة بصلاحيات واسعة، بدلا من جعلها لامركزية وأصبحت المؤسسات اللامركزية ضعيفة وبلا صلاحيات تذكر. فهل ستؤدي الإصلاحات في حال تنفيذها إلى قلب هذه الموازين أو إلى تعزيز هذا الاتجاه التاريخي؟
إنشرها