Author

ميقاتي للبنانيين: «ولكن لا تحبون الناصحين»

|
يقع لبنان رهينة التجاذبات التي تجتاح المنطقة. تحولت الدولة إلى فزّاعة في مناطق عديدة بعد أن سيطرت ميليشيا حزب الله على الحدود الجنوبية بين لبنان وسورية، وسيطر مؤيدو الثورة السورية على مواقع أخرى في الشمال. يتبادل الفرقاء الاتهامات، وتحاول كل فئة أن تستأثر بالقرار في الدولة التي أنهكها هذا الانقسام الطائفي، والذي يحاول البعض تكريسه من خلال قانون انتخاب طائفي. أكثر اللبنانيين تفاؤلاً لم يتوقع إنجازات رئيس الوزراء نجيب ميقاتي. حافظ الرجل على توازن هش بين الطوائف من خلال التصرف بنعومة السياسة في حالات مثل تشكيل الحكومة، والنأي بالنفس عن الأزمة في سورية بحكم سيطرة القرار السوري على الكثير من مكونات المجتمع اللبناني. ومن خلال الذراع العسكرية الهشة أصلاً عندما واجه أحداث طرابلس وأوقف ما كان يمكن أن يتحول إلى مجازر، تعيد للذاكرة أيام الحرب الأهلية. وقف ميقاتي صلباً ومحافظاً على وحدة بلاده. قاوم محاولات 8 آذار التي أرادت الاستيلاء على كل شيء في ظل السلبية الكبيرة التي تبناها تيار المستقبل وحلفاؤه من ميقاتي وحكومته. حقق الرجل نجاحات لم يصل إليها أحد من أسلافه رغم أنه كان يقف وحيداً والجميع ضده، بل إن الكثيرين ممن عارضوه اكتشفوا أنه يمكن لرجل واحد بفكر منفتح أن يحقق ما لا يحققه الملايين من المتشنجين. بذل الكثيرون جهودهم لإفشال مشروع الحفاظ على الدولة، لم يكن يقف مع ميقاتي سوى الرئيس سليمان، وهما رجلان تميزا عن غيرهما بالولاء التام للبنان فقط، نبذا كل شيء ووقفا ضد كل مشروع طائفي أو مذهبي، فنجحا في إبقاء لبنان واقفاً على قدم واحدة أثناء أزمة تطيح بدول في حجمه ووضعه. لبنان ضحية أبنائه الذين لم يتمكنوا من نبذ الخلاف. لبنان ضحية المنظرين للمصالح الشخصية. لبنان ضحية التراكمات التاريخية والجغرافية، ولبنان ضحية الخلاف الأيديولوجي في المنطقة برمتها. لبنان ضحية لأن كل واحد لا يرى فيه سوى نفسه وطائفته وفريقه السياسي. هذه الضحية ستواجه في القادم من الأيام عاصفة هوجاء، فلماذا يترك ميقاتي لبنان في مهب الريح هكذا؟ لقد حاول ميقاتي أن يحافظ على الوحدة. ضمن لفترة من الزمن أن يبقى لبنان قراراً وطنياً واحداً، لكن الجميع كانوا ضد مساعيه. أراده تيار 8 آذار دمية تنطق بما يريدون فكان أكثر الأشخاص شراسة في وجه هذه المحاولة. وأراد له تيار 14 آذار أن يفشل ويستقيل سريعاً لدرجة أنهم تركوه وحيداً يقاوم أكبر أغلبية تحصل عليها قوى 8 آذار في تاريخها وهي 19 وزيراً، أمر لم يزده إلا قوة في وجه مشاريع اختطاف شرعية الدولة. حقق ميقاتي نجاحاً كبيراً لضمان حكم القانون، واحترام الدولة في المحافل السياسية وأمام العالم كله عندما تجاوز اختطاف القرار اللبناني من قبل أولئك الذين ظنوا أنه سيكون دمية. تمكن ميقاتي من تمرير تمويل المحكمة الدولية التي تحقق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو ما لم يتوقعه حتى متفائلو فريق 14 آذار، قرار كبير من رجل كبير. أهم مشاريع اختطاف الشرعية في لبنان كان محاولة تمرير قانون الأرثوذكسي الانتخابي. يحاصر هذا القانون المواطنين في زوايا ضيقة تحكمها الفئوية والطائفية، يعيد لبنان إلى سيطرة رجال الدين في الكنيسة والمسجد والحسينية. يلغي القانون فكرة لبنان الوطن، لبنان الديمقراطية الذي يضع في قيادته الأفضل من أبنائه. يمكن أن يتحول الانتخاب في حالة كهذه إلى تنفيذ وصايا دينية، ويعيد البلاد لأوروبا العصور المظلمة، حيث توجد ديمقراطية لكنها في يد مجموعة محددة تسيرها كيف تشاء. أدركت كل القوى أن هذا الرجل لن يتنازل عن مواقفه، ولن يضع لبنان ثانياً. عاد الجميع لممارسة دور إفشال الرئيس الذي مارسوه لسنين طويلة. ركز فريق 14 آذار على المشاكل الأمنية، وملف الأسلحة التي تجوب لبنان جيئة وذهاباً من حزب الله إلى سورية. والحدود التي سقطت في أيدي الحزب، بل إن البعض حاول ونجح في إذكاء فتنة في الشمال حيث معقل ميقاتي، ومركز قوته السياسية. ثم جاء دور قوى 8 آذار التي وجهت وزراءها لإفشال الدور الريادي الذي يقوم به ميقاتي. أصبحت الألسن تلوك مداولات مجلس الوزراء. يخرج الوزير من الجلسة فيتعدى على الرئيس ويوجه له الاتهامات، كانت كل مشكلة تجير إلى ميقاتي. الأمن والجيش والمتسللون والاغتيالات والاعتصامات والرواتب والسكن، كلها من صنع ميقاتي - حسب وزراء الحكومة المقربين من السيد أو العماد. جاءت قاصمة الظهر عندما حاول الحزب أن يختطف قرار لبنان بكلمة وزير الخارجية في مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة، التي حاد فيها عن ثوابت سياسة "الدولة " اللبنانية فيما يخص الوضع في سورية. بدأ التأزيم يسود البلاد، ورفض الوزراء التجديد لمدير الأمن العام اللواء ريفي الذي حقق نجاحات في زمن يصعب فيه تحقيقها. بوضع لبنان المتأرجح، وحالته المتشنجة، والتجاذبات الخطيرة لم يكن من المعقول ولا المقبول أن يسرح أفضل شخص ليستبدل بحليف لهذه الفئة أو تلك، أو تسليم لبنان للمزيد من الانقسام، فقرر الرجل الاستقالة كحل يمكن أن يأتي برجل قادر على إقناع الفرقاء بأهمية الوطن. لكن هل يحب سياسيو لبنان الناصحين؟
إنشرها