FINANCIAL TIMES

ازدواج مشكلة قبرص .. تشخيص سيئ ودواء مر

ازدواج مشكلة قبرص .. تشخيص سيئ ودواء مر

ازدواج مشكلة قبرص .. تشخيص سيئ ودواء مر

تجمع مئات القبارصة خارج البرلمان في نيقوسيا يوم الثلاثاء، بعد أيام من الغضب والقلق حول سلامة مدخراتهم. لوحوا بأعلام روسية وصاحوا "اخرجوا أنتم وهذه الترويكا" ـــ في إشارة إلى المفوضة الأوروبية وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي، فهؤلاء الثلاثة مكروهون بشدة من الناس؛ لأنهم مسؤولون عن المفاوضة حول خطة الإنقاذ في منطقة اليورو. قادة الاتحاد الأوروبي الذين أمضوا الليل في محادثات لتقديم خطة الإنقاذ القبرصية المشئومة هذه ـــ وهي الخطة التي كان ليُدفع لها جزئياً من ضريبة تأخذ من ودائع المصارف الخاصة بالناس البسطاء ـــ رأوا ما هو أسوأ. في أثينا كانت هناك اضطرابات وغاز مسيل للدموع. مع ذلك، فبعد ثلاثة سنوات من الالتحام مع أزمة تلو الأخرى، ظل المسؤولون مسيئين لفهم الموقف. كانوا على خطأ بشأن قبرص ونوع السياسات فيها. اعتقدوا أن الجزيرة انتخبت أنطوني سامامراس آخر، رئيس وزراء اليونان من يمين الوسط الذي أصبح بطل خطة الإنقاذ الصعبة المثقلة بالديون لدولته، حينما انتخب في حزيران (يونيو) الماضي. #2# لكن هذه لم تكن اليونان. بدلاً من ذلك، كانوا يتعاملون مع نيقوس أناستاسيادز، المحامي الذي يعمل بالسياسة والذي تولى رئاسة الدولة من أسبوعين قبلها فقط. ومثل عديد من القبارصة، كان لديه علاقات بالمصالح الروسية ـــ يوجد في عائلته المتمرسة بالقانون اثنان من المليارديرات في سجلاتها. شعر أعضاء آخرون في الطبقة الحاكمة القبرصية بالضغط لحماية القطاع المصرفي بالدولة، التي من بين أهم عملائها مواطنون روس. الفشل في فهم عمق مثل هذه الروابط سيمثل نقطة عمياء مميتة. يقول أحد المسؤولين الألمان الكبار: "المناقشة في قبرص لم تكن عن المدخرات الصغيرة. كانت حول الأشخاص الذين يستخدمون الطائرات الصغيرة من نوعية ليارجيت". لكن بحلول نهاية الأسبوع ستكون هناك 13 طائرة خاصة مملوكة لروس في الشركات القبرصية، متوقفة في مطار لارناكا الدولي، ومستعدة للارتحال فجأة مع ملايين موضوعة في أكبر مصرفين. كانت قبرص ملاذاً ضريبياً شهيراً لرجال الأعمال الروسيين الشرعيين وغير الشرعيين. خلال محادثات خطة الإنقاذ التي بدأت في ليلة الجمعة الماضية، هدد أناستاسيادز بالخروج غاضباً من اجتماعات مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، ومسؤولون آخرين مرتين على الأقل. في إحدى المراحل أعلن: "دولتي لن تقدم على الانتحار"، هذا ما يتذكره شخص ما في الغرفة. ومع ذلك، فإن المسؤولين السياسيين يعتقدون أن بإمكانهم أن يوضحوا للقبارصة ما سيكون على المحك، إذا ما لم يعقدوا صفقة. جورج أسموسين، عضو مجلس الإدارة التنفيذي بالبنك المركزي الأوروبي شرح واقعياً أنه إذا ما قرر أناستاسيادز المغادرة دون إبرام صفقة، فسيضطر البنك المركزي الأوروبي أن يقتطع من القروض منخفضة التكلفة، التي كانت تبقي على حياة مصرف لايكي، ثاني أكبر مصرف في قبرص وأكثرها اضطراباً. إذا ما أخفق مصرف لايكي كما يقول أسموسين، فإن مصرف قبرص أكبر مؤسسة مالية في الدولة، سينجرف للأسفل هو الآخر معه. المدخرات كافة في مصارف الجزيرة ستنمحي. ونظراً لهذا التهديد عاد أناستاسيادز وفريقه إلى مصير غير مؤكد في نيقوسيا. قبل التصويت البرلماني يوم الثلاثاء، بعد أن حث المسؤولون في منطقة اليورو الحكومة القبرصية على تعديل رسوم الدفع المصرفية، بحيث تقع حصرياً على الودائع التي تتعدى 100 ألف يورو، أقنع المسؤولون الأوروبيون أنفسهم أن أناستاسيادز لن يخاطر بدولته لحماية الملاك الأثرياء أصحاب الحسابات المصرفية الكبيرة. يقول أحد المسؤولين الكبار بمنطقة اليورو والذي كان جزءًا من المفاوضات عن مواقف أناستاسيادز: "كنت أفكر في الأمر قبل ساعة من حدوثه بالفعل: الأمر كله خديعة. سيعود ويعطي تعليمات لحزبه بالتصويت على هذا الأمر بعد كل شيء. لن يصوت إذا ما لم يتأكد أن النتيجة المرغوبة كانت هناك". الأكثر أهمية أن المسؤولين افترضوا أن أناستاسيادز الذي وقّع قبل ثلاثة أيام مؤخراً على الصفقة ـــ التي تضمنت بنداً مثيراً للجدل يتعلق بمصادرة 5.8 مليار يورو من حسابات مصرفية قبرصية ـــ سيستخدم نصره الأخير في الانتخابات كرصيد سياسي، لكي يمرر حزمة الاتفاقات هذه بصعوبة. يقول أحد المسؤولين الكبار الآخرين في منطقة اليورو، والذي يتفاوض مباشرة مع أناستاسيادز: "إلى أن طلع علينا صباح هذا اليوم أو حتى منتصف النهار، اعتقدنا: أنه نظام رئاسي. إنه فقط يضع مشروع قانون (أمام البرلمان) ولا ندري إذا ما كان سيمرر. اعتقدنا أنه استغرق بعض الوقت للتفاوض مع الأحزاب الأخرى. اللحظة التي علمنا فيها أنه سيصوّت، علمنا أنه قد قضي الأمر". هذا الخطأ في التقدير كان سيصبح له عواقب مهمة لمنطقة اليورو. رفض قبرص للصفقة بعث مرة أخرى مخاوف أن أزمة منطقة اليورو التي مرت عليها ثلاث سنوات، والتي أصبحت كامنة لأكثر من سبعة أشهر، على شفا أن تخرج مرة أخرى عن نطاق السيطرة. ومع أن قبرص أصبحت محل إدراك من العالم في هذه السنة فقط، إلا أن أزمتها المالية تفاقمت منذ أن عُزلت لأول مرة عن الأسواق المالية العالمية منذ سنتين. قال مقربون من أنجيلا ميركل مؤخراً العام الماضي، إنها حين سئلت عن أكبر مخاوفها من منطقة اليورو، ردت المستشارة الألمانية ـــ على الرغم من الاضطرابات في إيطاليا وإسبانيا ــــ بكلمة واحدة: قبرص. قال أحد المسؤولين الكبار في الاتحاد الأوروبي: "من ناحية الفهم والسياسة الحكيمة، فإن هذا أكثر تحدياً من الحزمة اليونانية. لا يتماشى حجم الدولة مع حجم المشكلة". حث مسؤولون أمريكيون كبار صندوق النقد الدولي بهدوء على التراجع عن موقفه المتشدد تجاه "الإنقاذ من الداخل" (وهو الاستحواذ الطارئ على المؤسسات من هيئات تنظيمية لإعادة هيكلة الديون، ومن ثم إعلان أنه متعذر إصلاحها لحماية جزء من حاملي الأسهم بدلاً من الانهيار التام) لأصحاب الحسابات المصرفية في قبرص. يقر المسؤولون الأوربيون بأنهم كانوا يخططون لخروج محتمل لقبرص من العملة الموحدة. يعترف المسؤولون صراحة أنه ليس لديهم أدنى فكرة أين يكمن الحل؟ يقول أحد المسؤولين المشاركين مباشرة في المحادثات: "هناك كثير من الأشخاص في أوروبا خائفون وسيلقون ببعض المال بسعادة على المشكلة لتأجيلها لبضعة أسابيع. لكن الاحتمال الآخر هو مغادرة قبرص (لمنطقة اليورو)". من نواح عدة شكلت قبرص أسوأ الأجزاء التي تم إنقاذها مجتمعة في منطقة اليورو، فانهيار مصرف كان بحجم ذلك الخاص بأيرلندا، كما دخلت الأزمة بمعدلات عالية من الديون مثل البرتغال. وكما الأمر في اليونان، كان اقتصادها مختلاً، حيث يعتمد حصرياً تقريباً على قطاعها المالي الضخم فيما يتعلق بالنشاط الاقتصادي. ويبدو أن هذا المزيج السام لم يكن كافياً، فقد تعيّن على القادة إبرام صفقة مع بطاقة أخرى رابحة كبير للغاية: الكرملين. بالرجوع إلى تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، اقترح أولي رين كبير المسؤولين الاقتصاديين في الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى على انفراد، رأي خطة الإنقاذ على وزير المالية للقائد القبرصي السابق، دميتريس كريستوفياس. ربح الرئيس أواخر هذا العام قرضاً بقيمة 2.5 مليار يورو من موسكو، لتأجيل يوم الحساب مع بروكسل. هذه المرة يريد قادة الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي التأكد من أن الأشياء ستأخذ منحىً مختلفاً. على هامش اجتماع وزراء المالية لمجموعة العشرين الشهر الماضي في موسكو، التقت مجموعة رفيعة المستوى بوزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف بسرية، لجس نبضه فيما يتعلق بقبرص. أرادوا أن يساعد الكرملين نيقوسيا بإعادة هيكلة قرض بالغ 2.5 مليار يورو ـــ أن يزيدوا من المبالغ المدفوعة ويخفضوا من معدل الفائدة ـــ لكنهم أرادوا أيضاً أن يعرفوا إذا ما كانت روسيا تريد الاستحواذ على إما مصرف لايكي أو مصرف قبرص. القرض الإضافي لم يكن ليساعد في هذا الأمر كما قال الوفد لسيلوانوف، حيث إنه كان سيضيف ببساطة لمعدل الدين القبرصي، وتخفيض الديون السيادية لنيقوسيا إلى 100 في المائة من إجمالي الناتج القومي بحلول عام 2020، وهو ما أصبح سبباً رئيساً للإبقاء على حجم خطة الإنقاذ مساوياً عشرة مليارات يورو. لكن الاستحواذ الروسي على مصرف لايكي الذي ظل يشاع لفترة طويلة، كان أمراً مختلفاً، حيث إنه كان سيعطي للمستثمرين الروس حصة ملكية، دون الإضافة إلى معدلات الديون القبرصية. مع ذلك، فطبقاً إلى أحد الأشخاص الذين كانوا في الغرفة، كان سيلوانوف واضحاً: كان على استعداد لمناقشة القرض الذي يبلغ 2.5 مليار يورو، لكن لم يكن هناك أي اهتمام بإعطاء نيقوسيا مزيد من المساعدات أو حث المصارف الروسية على الاستحواذ على مصرف لايكي. وللتأكد أكثر قبل أيام من مجيء جيروين ديجيسيلبوليم، الهولندي الذي يرأس لجنة وزراء المالية الـ17 من منطقة اليورو، دعا نظراءه في بروكسل أن يرفضوا صفقة ليلة الجمعة، وطلب من رين أن يستدعي سيلوانوف مرة أخرى، وقال أحد المسؤولين: "زملاؤنا الروس كانوا صرحاء للغاية، قائلين: لا نريد أياً من هذه المصارف". القنوات الداعمة للكرملين كانت لتثبت فائدتها حينما رُفضت حزمة الإنقاذ يوم الثلاثاء، فوزير المالية القبرصي مايكل ساريس سافر إلى موسكو في محاولة لتأمين حل بديل لبرنامج الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد. قال أحد المسؤولين بمنطقة اليورو مع أن ساريز كان في اجتماعات خلافية، وكان رئيس الوزراء دميتري ميدفيديف ينتقد علانية قادة الاتحاد الأوروبي، متهماً إيهام بالتصرف مثل "فيل في محل صيني"، فإنه تلقى كلمة من أحد المسؤولين الروس بأنه لا يوجد مساعدة وشيكة الحدوث. في الواقع، كان النزاع الأكبر داخل الترويكا نفسها. صندوق النقد الدولي الذي اقتنع أنه لن يكرر أخطاء خطة الإنقاذ اليونانية، كان مصراً على أن يكون له برنامج يبقى الدين القبرصي تحت السيطرة، وأن يقلل من حجم نظامها المالي المتضخم. وبدعم من برلين اقترحت ما عرف باسم "الإنقاذ من الداخل" أو "الحل الآيسلندي" ـــ لدمج مصرف لايكي ومصرف قبرص؛ ما يخلق مصرفاً جديداً بكافة الودائع المؤمن عليها تحت مبلغ 100 ألف يورو، والمرسملة من الحكومة القبرصية والتمويل القادم من الإنقاذ؛ ويتم وضع كافة الأشياء الأخرى في "المصرف السيئ". هذا يعني أن المودعين الكبار ومن بينهم عديد من الروس، سيتم وضع ممتلكاتهم في المصرف السيئ، وأن يتم تخفيضها من 20 إلى 40 في المائة. لكن هذا يعني أيضاً خفض سعر الإنقاذ البالغ 17 مليار يورو إلى النصف. المفوضية الأوروبية بدعم من أسموسين من البنك المركزي الأوروبي وتوماس واسر النمساوي الذي يرأس لجنة وكلاء وزراء مالية الاتحاد الأوروبي، التي تحدد مسار مناقشات خطط الإنقاذ، كانت قلقة من أن التطرق إلى المودعين الكبار، سيسبب مشاكل أكبر مما سيحل، حيث سيخيف المستثمرين ويشعل فراراً مصرفياً ويدمر الاقتصاد القبرصي. الشجار بين صندوق النقد الدولي والمفوضية أصبح سيئاً في التحضير لاجتماع يوم الجمعة. تقول المفوضية أن أحد المشاركين في المواجهة كان يتم تصويره من برلين على أنه "ينفق أموال الناس الآخرين على الدوام". صندوق النقد الدولي من ناحية أخرى، كان يستخدم "اقتصاد الجزيرة الصغرى كأرض اختبار"، هذا ما يقوله أحد الأعضاء من المعسكر المنافس. يقول مسؤول آخر مشارك: "أصبح الموقف متعنتاً في مرحلة ما". في محاولة لعرقلة خطط صندوق النقد الدولي وألمانيا، اقترح جانب المفوضية فكرة رسم الدفع، التي شعر بأنها ستكون أقل مشقة من "الإنقاذ التام من الداخل"، على الأخص إذا ما اقتنعت برلين بأن تقبل أشكالاً أخرى من العائدات، مثل ضرائب جديدة ومساهمات من أموال المعاشات، كطريقة لتقليل سعر الـ17 مليار يورو. لكن المواجهة بين صندوق النقد الدولي والمفوضية مستمرة. قرر ديجيسيلبوليم أن عليه أن يدعو إلى انعقاد مجموعة اليورو لإتمام الصفقة. يقول أحد الأشخاص المتعاطفين مع ديجيسيلبوليم: "كانوا ينشرون خبائثهم لمدة شهر، لم ولن يجتمعوا أبداً. كان علينا أن نشعل إصبع من الديناميت ونقول: إنه يشتعل". وبينما كانت المحادثات تمر ببطء طوال الليل، استحوذ معسكر الإنقاذ من الداخل ورسوم الدفع على أكثر الوقت. وولف جانج شوبله، وزير المالية الألماني الفظ، أغضب القبارصة بتتبعه المستميت المدخرات المسبقة؛ الجميع تقريباً تجنبوا ردة الفعل العاطفية لأناستاسيادز والتوتر في علاقته مع ساريس الذي يحظى بالاحترام. في وقت باكر من المساء، استسلم شوبله لرسوم الدفع. كان أناستاسيادز هو الذي حدد معدل الأسعار، ببعض التشجيع من رين للإبقاء على المعدل الأعلى تحت الـ10 في المائة لمنع التدفق المالي الضخم. وعلى الرغم من الغضب الذي تلا ذلك، وتنصل أناستاسيادز من الصفقة، فإن الأبواب تغلق سريعاً في نيقوسيا. في البدء قال البنك المركزي الأوروبي إنه سيخفض من حبل النجاة المتمثل في القروض الطارئة يوم الإثنين إذا ما لم يتم التوصل إلى صفقة حينها. ثم أعلن الكرملين ما كان يعرفه المسؤولون مسبقاً بشكل خاص: أنه لن يقدم على الإنقاذ. في النهاية، قالت الترويكا يوم الجمعة إن العرض القبرصي المقابل ـــ خليط من أفكار سابقة مع أفكار أخرى رفضت بالفعل ـــ كان غير كافياً. بدا أن أناستاسيادز قد عاد هذا الأسبوع من حيث بدء: القبول بالصفقة التي عقدت نهاية الأسبوع الماضي أو مواجهة هلاك مصارفه وأغلب الظن، خروج من اليورو. حينما سأل أحد مسؤولي منطقة اليورو، والذي كان على اتصال منتظم مع نيقوسيا إذا ما كان من الممكن أن تغادر أوروبا اليورو، قال: "عند التخطيط للطوارئ تكون كل الخيارات متاحة دوماً. لا أعتقد أن هذا سيحدث، لكن إذا ما لم يكن لديهم برنامج بحلول صباح الإثنين يتفقون فيه معنا . . ." انخفضت نبرة صوته وبات غير قادر على التعبير عن عواقب الإخفاق. "هذا أكثر تحدٍ من الحزمة اليونانية. لا يتماشى حجم الدولة مع حجم المشكلة". "لم تكن المناقشة في قبرص بشأن صغار المدخرين، بل كانت عن الناس الذين يسافرون في الطائرات الصغيرة من نوع لير".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES