Author

ولا عزاء للمعلمات

|
تفوقت جميلة على جميع زميلاتها في الثانوية العامة وحصلت على عدد لا تستطيع أن تحصيه من شهادات الشكر والتقدير. كانت تخطط لدراسة الطب، تقدمت للجامعة، لكن معدلها كان أقل من المطلوب، تأمل أبوها الحال بأسى، خصوصاً أنه لا يستطيع أن يحقق حلمها على حسابه الخاص. حاول وتوسط وبحث عن كل من يعرفهم، لكن الحظ لم يحالفه. شعرت الفتاة بألم أبيها وطلبت منه أن يتوقف عن المحاولة، فهي ستسجل في برنامج العلوم الطبية المساعدة، وتحصل على تقدير عالٍ، ومن ثم تأخذ فرصتها في الانتقال إلى كلية الطب، على الأقل هذا ما وعدتها به المشرفة التي اقترحت عليها أن تتخصص في المختبرات. كان ما خططت له، حصلت على العلامة الكاملة في كل المواد، ما عدا مادة حصلت فيها على (ب +). رفضت كلية الطب قبولها بحجة أنها لم تحصل على الدرجة التي تؤهلها لدخول أي من أقسام الكلية. منيرة ـــ زميلة جميلة ــــ لم تحصل على العلامات نفسها، بل إنها حصلت على (ج) في إحدى المواد، لكن جميلة فوجئت بها ضمن المقبولات في كلية الطب، عندما سألتها صديقتها كيف قبلوك، قالت وقعت على تعهد بأن أحصل على (ألف) لأستمر في القسم. حاولت جميلة أن توقع أي تعهد، أو التزام، لكن محاولاتها باءت بالفشل. لم تعلم جميلة أن هناك حرفا آخر تحمله زميلتها منيرة ليس ألف ولا باء، وإنما (واو). استخارت جميلة وقررت أن تكمل دراستها في التخصص الذي أرغموها عليه، وتوقعت أن تحقق معدلات عالية تضمن لها وظيفة في مختبرات المستشفى الجامعي، حيث تكون أقرب ما تكون لهدفها الأصلي. مرت السنون وتخرجت جميلة بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، هذا يضمن لها الوظيفة، خصوصاً أن الوزارة تعاقدت بداية الفصل السابق مع 50 خريجة في التخصص نفسه من دولة عربية شقيقة. أقام أبوها حفلة ''على قد الحال''، ليعوضها عن خسارة التخصص الذي طالما حلمت به. أكدت أنها لن تتوظف إلا في أفضل مستشفى، حتى تحصل على خبرة وتكون الأفضل في تخصصها، وتحصل على بعثة لإكمال الماجستير والدكتوراه، وتعود لتعلم في الجامعة التي أحبتها نفسها، وتخرجت فيها. فوجئت جميلة عندما اعتذر منها رئيس القسم الذي تقدمت له بعدم وجود شواغر في الوقت الحاضر، ولكن يمكنها المراجعة بعد ستة أشهر عندما تصدر الميزانية، وتأتي الوظائف. حاولت أن تنبه الدكتور إلى أن كل الذين قابلوها في المقابلة الشخصية أجنبيات. وأن هناك أوامر أن الوظيفة التي يشغلها الأجنبي تعتبر شاغرة، فقال لها: لا تقطعي أرزاق الناس، اهتمي بشؤونك وعودي في الوقت المحدد. بقيت تنتظر لمدة ستة أشهر، لكنها عملت على تحسين معلوماتها من خلال القراءة والبحث في مجال المختبرات حتى لا تخسر الوظيفة، خصوصاً بعد أن جربت الاختبار التحريري الذي أجرته لها الوزارة في المرة الأولى، وعلمت من زميلاتها أن الاختبار القادم سيكون أصعب. عادت جميلة بعد ستة أشهر لتكتشف أنه تم تثبيت المتعاقدات على الوظائف التي أحدثت في الميزانية. وطُلِب منها العودة بعد ستة أشهر فقد تشغر وظائف مع الترقيات، طالبت بالتعاقد معها لكن وظائف العقود كانت قد أخذت بمجرد خروج المثبتات منها. عادت جميلة مرة أخرى بعد ستة أشهر لكن العذر يتكرر. حاولت العمل في مستشفى خاص، لكنهم طالبوها بالعمل 12 ساعة على ورديتين بينهما أربع ساعات راحة، وكان المرتب ثلاثة آلاف ريال. وضع جميلة الاجتماعي لا يسمح لها بأن تغيب كل هذا الوقت عن البيت، فأمها كبيرة في السن، ولا توجد في بيتها خادمة، أو من يساعد في أعمال المنزل. اضطرت جميلة لرفض الوظيفة. شكت الحال لصديقتها التي أكدت أنها لن تحصل على وظيفة في المجال الطبي مهما حاولت، ''الحل أن تدرسي فصلين دراسيين للحصول على شهادة تربوية ومن ثم تتقدمين لوظيفة معلمة'' نصحتها الصديقة. تألمت جميلة لهذه النتيجة، خصوصاً أنها لم تقبل أن تتخصص في التربية بسبب حبها للطب والعمل فيه، لكن الوالد تقاعد، وأصبحت الوظيفة مهمة أكثر الآن من أي وقت مضى. فقررت أن تنفذ فكرة صديقتها، وهكذا كان. أنهت جميلة الفصلين بامتياز كالعادة. وتقدمت للوظيفة التعليمية التي تعتبر شبه مضمونة لمن تخصصها علمي وحاصلة على معدل عالٍ.. أو هكذا ظنّت! استمرت جميلة في متابعة طلب التوظيف، تقدم ابن عمها لخطبتها، فوافقت على الزواج شريطة ألا يمنعها من التدريس مستقبلاً. استمر الانتظار لمدة.. سبع سنوات. رزقت خلالها جميلة طفلين جميلين. ثم جاء الفرج. سافرت مع زوجها للتعرف على مدرستها الجديدة، والتي تقع في منطقة أخرى، لكنها لن تدع الفرصة تفلت من يدها كما فعلت في السابق. وصلت مع أسرتها للمنطقة التي عينت فيها، واكتشفت أن المدرسة تقع على طريق بري يمتد لمسافة 50 كيلو مترا خارج الإسفلت. وأقرب موقع للحضارة والخدمات يبعد عن المدرسة بمسافة 80 كيلو مترا. جاء أبو جميلة ليسكن معها، ومعهما ابنها مهند، على أن يبقى ابنها محمد مع والده بسبب الدراسة. وجد والد جميلة سكن معلمات إيجاره ألفي ريال في الشهر، وتعاقد، ومعه مجموعة من أولياء أمور المعلمات مع سائق يوصل كل معلمة لمدرستها بمبلغ 1500 ريال. بدأت الدراسة وقابلت جميلة زميلاتها وتعرفت عليهن وكانت كل واحدة من منطقة، بعد أن استقرت في سكنها، أصبحت تخرج مع آذان الفجر إلى المدرسة وتعود عند غروب الشمس. لم تكمل جميلة شهرين من تعيينها، خرجت ذات صباح.. لكنها لم تعد، وجاء الخبر الفاجعة. لقد وقع حادث للسيارة التي تقل جميلة، وتوفيت هي وإحدى زميلاتها وأصيبت باقي المعلمات إصابات مختلفة. يقام العزاء في سكن المعلمات ويحضره مندوب من أمن الطرق ووزارة النقل والهلال الأحمر، ولا عزاء للمعلمات؛ نظراً لانتداب المسؤولة عنهن!
إنشرها