Author

«ما داوم اليوم»

|
لعل هذه العبارة أوضح مؤشرات الفساد والتسيب الإداري. لا تزال الكثير من الإدارات الحكومية تستقبل مراجعيها بهذه العبارة المسيئة, التي أول ما تسيء للجهة نفسها. تتبع هذه العبارة عبارات مثل ''ما بعد داوم''، أو ''خرج قبل قليل''، وغيرها من العبارات التي نسمعها كثيراً كمراجعين، لكنني لست متأكداً من أن المسؤول يسمعها. لأن العذر سيكون مختلفاً بكل تأكيد. يمكن أن نعزو الأسباب إلى إشكالات تنظيمية أو حالة انعدام المهنية التي تولد الانطباع لدى الموظف أنه فوق القانون، أو أنه يحق له أن يقول ما يشاء للمراجعين لـ ''تصريفهم''. إن انتشار هذه الحالة في جهات قضائية، إضافة إلى الجهات التنفيذية يزيد من تعقيد وتغلغل المفهوم لدى الموظفين. الأكيد أن الرئيس لو كان منضبطاً لانضبط موظفوه. لكن البيئة الإدارية تحكمها الكثير من المؤثرات الداخلية والخارجية، وعندما يحصل موظفون معينون على مزايا خاصة مثل عدم مطالبتهم بالالتزام بأوقات الدوام، فهم ينقلون العدوى بسرعة، وتختفي تدريجياً القدرة على السيطرة على السلوكيات غير المهنية. تظهر العيوب للعلن عندما يكون ممارسو المخالفات مكلفين بالتعامل مع المراجعين، تبدأ عندها الإدارة بفقد سمعتها. تعرفَتْ الكثير من الجهات على إشكاليات سوء الأداء الناتجة عن العمل في القطاع العام، وتوجهَت نحو تغيير البنية الأساسية والأشكال التنظيمية التي تعوق عملها، وتعاونَت مع الجهات المختصة في سبيل تحقيق إدارة مثالية تتعامل مع الأخطاء وتصلحها، وتسيطر على السلبيات التي عاناها المواطن. لعل أهم التحولات التي شهدتها منظومة الإدارة الحكومية هي التوجه نحو تأسيس الهيئات والمؤسسات العامة في محاولة لتحقيق مرونة عالية وضمان التركيز على مجال محدد يسمح للهيئة العامة أو المؤسسة أن تقدم خدماتها بالشكل اللائق للمواطنين. نجحت بعض المؤسسات ولم توفق مؤسسات أخرى في تحقيق المرجو منها. لكن الإشكالية المتعلقة بالمساءلة والمحاسبة ظلت رهينة العلاقات الشخصية وأمور اجتماعية وتنظيمية حدت من أثر تقويم الأداء على التعامل بين الموظفين ومديريهم والمؤسسة نفسها. دخل العمل الحكومي مرحلة ثالثة بالتخصيص، هذه المرحلة كانت ضرورية لضمان كفاءة تشغيلية أعلى وأداء يتفق مع المعايير العالمية وتطلعات المواطن، ولعل أهم عملية تخصيص للقطاع العام كانت تلك التي طالت ''الاتصالات السعودية''. استمرت شركة الاتصالات السعودية في حالة من ''العمخصة''، وهو تعبير ''من إنشائي '' أقصد به أن الشركة استمرت في التعامل مع العملاء بمفاهيم القطاع العام، وحققت فوائد ذاتية بخروجها من بيروقراطية وتعقيدات القطاع العام في الترقيات والرواتب والمكافآت. أي أن موظفي الشركة استفادوا بينما لم يستفد العملاء من هذه العملية بالشكل المطلوب. رحم الله المواطن عندما صدر قرار بالترخيص لشركات منافسة لدخول السوق السعودية، عندها بدأت شركة الاتصالات عملية مراجعة علمية وإدارية لوضعها في السوق، لأنها بدأت تفقد العملاء بشكل غير مسبوق. كان هذا رغم اعتقاد البعض أن الشركة وطنية وأن المنافس أجنبي، وهو أمر غير صحيح. تحسنت الخدمات المقدمة للمواطن وانخفضت الأسعار بفعل المنافسة. لكن شركة الاتصالات استمرت في معاناتها الإدارية عندما اعتقدت أنه يمكن أن تحافظ على المزايا المالية لموظفيها، واستمرار أعداد كبيرة من الموظفين على رأس العمل دون مبرر إنتاجي. تستمر الشركة في فقدان موقفها في السوق بسبب عدم تطبيق المفاهيم العلمية المتجردة في إدارتها. نتج عن عملية التخصيص هذه الكثير من السلبيات التي كان من المفترض أن تدرسها الجهات التنظيمية، خصوصاً اللجنة العليا للتنظيم الإداري، لضمان عدم تكرارها في عمليات التخصيص المستقبلية، لكن أمراً كهذا لم يحدث. بل تم تخصيص قطاع مهم جداً، وهو قطاع المياه بالمنهجية السابقة نفسها، لتستمر المشكلة وتتجسد مرة أخرى. خرجت شركة المياه الوطنية من الرحم نفسه وترتكب الأخطاء نفسها. هذه أخطاء يعايشها المواطن. بل إن كلمة ''ما داوم اليوم''، جاءت لتؤكد أن الشركة هي ''معمخصة'' بامتياز. لا يمكن أن يتغيب رئيس فرع أو مسؤول قسم في القطاع الخاص، ولا يمكن أن يتوقف العمل على شخص واحد. لا يمكن أن يتجرأ موظف ليغيب دون أن يوكل شخصاً آخر مهامه، ولا يمكن أن يتجرأ شخص ليقول لمراجع إن مدير القسم لم يحضر للدوام اليوم، وكأننا نعود لمشاكل القطاع العام في تقديم الخدمات. يتضمن أسلوب عمل الشركة فصل عمليتي تأسيس خدمتي المياه عن الصرف الصحي، خصوصاً أن المتقدم للحصول على المياه يحتاج في الوقت نفسه إلى خدمات الصرف الصحي، ومع ذلك لن تجد نموذجاً يخدم المواطن في إيصال الخدمتين. تحتاج إلى نموذج لكل خدمة، وتحتاج إلى إرفاق الصكوك والفسوح وتقارير البلدية لكل من الطلبين. يضاف إلى هذا ضرورة أن تحضر لموقع الشركة لتعبئة البيانات ومراجعة كل خطوة من طلبك، فإذا تعثرت معاملتك وكنت مسافراً أو تتوقع إحاطتك بالتعثر فأنت واهم، حيث لا تقوم الشركة بمتابعة طلبك إنما عليك أنت أن تقوم بذلك. ثم تعتمد الشركة على مقاولين يقومون بتولي الطلبات، فإن لم يستوف المقاول الطلب فليس هناك من يحاسبه. أظن أننا سنشاهد تكراراً مريراً لخصخصة الاتصالات، لكن بطريقة أكثر تكلفة وتعطيلا للمواطن، ما دامت الدروس المستفادة لم تحدد، ولم نبذل جهداً في ضمان عدم تكرارها، خصوصاً أن قضية إدخال شركة منافسة لشركة المياه الوطنية بعيدة عن خطط الوزارة حالياً. وسنظل ننتظر أن ''يداوم'' الموظف.
إنشرها