Author

النقل البري .. كارثة اقتصادية

|
ليس أسوأ ولا أكبر ضرراً علينا وعلى مستقبل اقتصادنا من الغفلة، ولا نقصد هنا اللهو بأمور الدنيا عن الدين. بل الغفلة عما يُهدد مستقبلنا الاقتصادي والأمني والاجتماعي وسلامة أرواحنا. فهناك ظاهرة خطيرة تستفحل بين أيدينا وأمام أعيننا مع مرور الوقت، ولم ندرك بعد مع الأسف مدى انعكاسها سلبياًّ على حاضرنا ومستقبلنا. وهي أشبه ما تكون بكرة الثلج التي يتضاعف حجمها مع التدحرج. فتلكم هي وسائل النقل البري المتمثل في نقل الأحمال الثقيلة بواسطة مئات الألوف من "التريلات" وأنواع المركبات الأخرى الكبيرة التي تجوب الطرق الرئيسية مُحمَّلة بالبضائع. مع أن المفروض أن يكون نقل الأحمال الثقيلة من اختصاص السكك الحديدية، كما هي الحال في البلدان المتقدمة. أما نحن، فقد منحنا الله قدرة هائلة على قبول الواقع، مهما كانت عواقبه وتبينت معالمه واتضح مصيره. وقد كتبت أكثر من مرة حول الموضوع ذاته وحذرت من مغبة ترك هذه الظاهرة تترعرع دون أن نضع حداًّ لنموها ثم القضاء عليها من أجل المصلحة العامة. ولكن لا أذن تسمع ولا عين ترى ولا بصيرة تستشعر ما هو حاصل في محيط حياتنا. ويغلب على الظن أن الجهة المسؤولة بالدرجة الأولى عن اتخاذ القرارات الاستراتيجية بشأنها هي وزارة النقل. وأقل ما يمكن أن تعمله هذه المؤسسة الحكومية هو إجراء دراسة عميقة ومستفيضة للتأكد من أن ما سوف نذكره في هذا المقال يُبرر عمل مُخطط طويل الأجل يقضي على جميع سلبيات وجود هذه الظاهرة التي نكاد ننفرد بها بين دول العالم، لضخامة حجمها وعِظَم ضررها على مستقبل اقتصادنا. أما إذا أهملنا هذا الموضوع واستمر الوضع على ما هو عليه من توسع هائل في مجال النقل البري بواسطة المركبات، فسوف نجد أنفسنا بعد 10 إلى 20 سنة، وقد أنهك هذا القطاع اقتصادنا ودمرت المركبات طرقنا وكثرت حوادث الطرق وامتلأت بلادنا بالعمالة الوافدة وتضاعف استهلاك وقود الديزل. وحينئذ سوف يكون تغيير الوضع شبه مستحيل، وحتماً سنجد أننا أصبحنا ضحية لإهمال الذين تقع عليهم مسؤولية الرؤية المستقبلية لمرافق النقل العام. ومن البديهي أن يكون البديل الأمثل لتلك المركبات هو النقل بواسطة السكك الحديدية، التي ظل وجودها محدوداً لأكثر من 60 عاماً. ولا تزال سكة الحديد القديمة لا تحمل إلا نسبة ضئيلة من مجموع الأحمال التي يتم تناولها بين المنطقة الشرقية والرياض. بينما النسبة في معظم بلدان العالم تزيد على 90 في المائة عما تنقله المركبات. ومن الممكن أن نُصنِّف الوضع الحاضر، إذا لم تُتخذ الإجراءات اللازمة بأسرع ما يمكن، أنه سوف يقود إلى حدوث كارثة اقتصادية بكل ما لهذه الكلمة من معنى. وهذا أمر قد لا يدركه الكثيرون، ولكنها الحقيقة التي لا مناص من قبولها. ولنبدأ بمليارات العملة الصعبة التي ندفعها قيمة لمئات الآلاف من المركبات الثقيلة والشاحنات، وهو ما يُمثل استنزافا كبيرا لاحتياطياتنا النقدية. أما الشق الثاني، وهو أكثر أهمية، فهو استهلاك ملايين البراميل من المشتقات النفطية التي تُباع محلياًّ بأقل من 5 في المائة من الأسعار الدولية. أي أن الهدر المالي يبلغ البلايين من النقود الضائعة. ونأتي إلى مئات الألوف من العمالة الوافدة التي تقود تلك المركبات دون منافس من المواطنين. وهي أيضا تُكلف الاقتصاد مئات الملايين، يذهب معظمها إلى بلدانهم الأصلية. وما تُسببه الشاحنات الثقيلة من دمار للطرق الرئيسية يدفع تكلفة الصيانة الدورية إلى مستويات قياسية. أما فيما يتعلق بالسلامة المرورية فحدث ولا حرج، وعلى وجه الخصوص ما هو حاصل اليوم وما نتوقع أن يصل إليه في المستقبل من احتلال مسارين أو أكثر من المسارات الثلاثة المهيأة للمسافرين على تلك الطرق. وهو أمر خطير ويهدد سلامة المركبات الصغيرة، التي غالباً ما يمارس بعض أصحابها سرعات عالية، وفي كثير من الأحيان ينافسون بقية المسافرين على مسار واحد. ونحن ندرك تماماً أن الأمر يتطلب أكثر من إضافة خطوط حديدية جديدة موازية ومجموعة من عربات النقل. فهناك حاجة إلى إنشاء بنية تحتية واسعة ومتكاملة في طرفي مسارات السكك الحديدية، من أجل مناولة الأحمال التي سوف ينقلها القطار. وتحتاج هذه البنية إلى استثمارات هائلة ومجهود كبير ومتابعة لا تعرف الملل. ولكن المردود في نهاية الأمر مضاعف والمكاسب الوطنية لا حدود لها. وتركها على وضعها الحاضر، مع ما يترتب على ذلك من نمو غير طبيعي لعدد الناقلات، سوف يُضاعف من الآثار السلبية الكثيرة التي ذكرناها. وقد تناقلت الأخبار أخيراً مؤشرات على عزم أصحاب مركبات النقل رفع أجور النقل بنسبة 100 في المائة، وهو ما يصبُّ إيجابياً في اتجاه الجدوى الاقتصادية لتحويل العملية لمصلحة السكك الحديدية. ودعونا نتخيل الوضع الجديد عندما يحل القطار محل المركبات في نقل النسبة الكبيرة من البضائع ويتم تشييد البنية التحتية اللازمة. فسوف تتحول تقريباً جميع اليد العاملة المطلوبة للتشغيل والصيانة على ضخامتها إلى العمالة الوطنية، مما يتطلب توظيف عشرات الألوف من الشباب السعودي الباحث عن العمل، وهذا بحد ذاته مكسب اقتصادي مهم. وأفضل طريقة لمعرفة الاختيار الأمثل، بين مستقبل بقاء الوضع الحالي بما فيه من سلبيات وبين تطوير السكك الحديدية والموانئ من أجل استيعاب معظم أحمال النقل البري، هو الاستعانة بشركة استشارية مُتخصصة لدراسة الموضوع من جميع جوانبه، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وسلامة المرور. وأهم تلك العوامل هي النواحي الاقتصادية التي من المفروض أن تشمل تكلفة توريد الشاحنات والوقود وكل ما يتعلق بأجور ومصاريف العمالة الوافدة، وإحلال محلها المكاسب المُضافة الهائلة التي سوف تنتج من توظيف الأيدي الوطنية في مرافق النقل وتشغيل الموانيء الجافة الجديدة. ولنتخيل المبالغ الضخمة التي تُصرف على عمليات النقل البري، وتبلغ مئات البلايين إذا أخذنا في الاعتبار قيمة الناقلات وقيمة الوقود بالسعر العالمي وتكلفة العمالة الوافدة التي تقود المركبات وصيانة الطرق. هذا الاستثمار الهائل لا يدر سوى عدد محدود من فرص توظيف المواطنين، نظراً لطبيعة العمل الذي يتمثل في قيادة الشاحنات على مدار الساعة ومن منطقة إلى أخرى، مع رواتب متدنية.
إنشرها