تقنين «الموت الرحيم» يُفقد الطب والأطباء المصداقية

تقنين «الموت الرحيم» يُفقد الطب والأطباء المصداقية

أكد الدكتور عبد الجبار ديّة، استشاري الطب الباطني والصدر، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، أن من أبرز مخاطر تقنين ''القتل الرحيم'' فقدان الاهتمام بتطبيق العلاج التسكيني وجدلية المنزلق، وآثار مخاطره على مهنتي الطب والتمريض ويخاصة لناحية ''فقدان المصداقية''، إضافة إلى تحول دور الطبيب من الإبقاء على الحياة إلى التحكم في الوفاة، وتقويض فلسفة التعليم الطبي من الأساس؛ ما يفقد مهنة الطب هدفها، إذا أصبح قتل المريض هو الحل الأمثل لعلاجه، والتقليل من قيمة الحياة الإنسانية. جاء ذلك في محاضرة قدّمها في خميسية الجاسر الثقافية بعنوان: ''اليوثانيزيا (الموت الرحيم)''، وأدارها الدكتور أسامة الفهد أمس، حيث أكد وجود أوجه متعددة لمساعدة المرضى والتخفيف من معاناتهم ومعاناة أهليهم، ومنها التوسع في إنشاء مشافي الاستضياف، وإحياء دورها، وإعداد فريق من المتخصصين في شتى المجالات للإشراف والقيام بأعباء العناية في أماكن الاستضافة، مشيرا إلى أهمية تطوير العلاج التسكيني والتعامل مع الألم بشمولية، وتقوية العامل النفسي لدى المريض، مؤكدا أن الإسلام يقوم على مجموعة من القيم والمبادئ من تكريم الله للإنسان، وقيمة الحياة، وأن الله مالك الحياة والموت، وفضيلة الرحمة، وفضيلة الصبر، وحكم التداوي، ورفض العلاج. وقال الدكتور عبد الجبار ديّة ''إن تضاعف الاهتمام بـ''القتل الرحيم'' بدأ في الثمانينيات من القرن العشرين لما تناقلت دوائر الإعلام العالمية أنباء عن ممارسته بشكل واسع النطاق في هولندا، ومع استفحال وباء الإيدز واستعصائه على العلاج والسيطرة، والتقدم العلمي والتقني الهائل في مجال الطب؛ ازداد عدد المعمّرين مع ما يصحب ذلك من أمراض مزمنة تستدعي خدمات طبية مستمرة وبكلفة كبيرة، وبروز جماعات وجمعيات في الغرب تضغط على حكوماتها لأجل تقنين الموت الرحيم. وأشار إلى أن ''القتل الرحيم'' ظاهرة قديمة مارسها الإغريق منذ عهد أبقراط؛ إذ يرى أفلاطون في ''الجمهورية ''أن من الواجب إجهاض المرأة التي تحمل من سفاح في دولته المثالية، وأسماه سقراط وأتباعه بالـ''تدبير الذاتي للموت بشرف''، ذاكرا أن العرب كانوا أكثر استخفافاً بالحياة من اليونان، إذ كانوا يئدون بناتهم خشية العار ويقتلون أولادهم خشية الإملاق، حتى دانهم القرآن في ذلك، ثم أشرق الكون بنور الإسلام فأكد قيمة الحياة على نحو لم تعرفه الشرائع السابقة، ونشأ عن هذا التقدير مذهب ''الضرر بالنفس جريمة''. وفي أوروبا الحديثة نبذ بعض الفلاسفة أفكار أسلافهم اليونان؛ إذ يتبنى ألبرت شفيتزر نظاما أخلاقيا يقوم على أساس أن الحياة هي الخير الأعظم، ومن ثم فإن الحفاظ عليها هي الفضيلة العظمى، وهكذا نيكولاي هارتمان يؤكد أن الحياة ذات قيمة لا نهائية، بينما يرى نيتشه بفلسفته العنصرية أن الإنسان الأبيض هو ''السوبرمان'' الجدير بالحياة، ويقلل من قيمة الحياة للأجناس الأخرى. وعلى صعيد السياسيات، بلغت السياسات الأوروبية الحديثة الحضيض في استخفافها بالحياة، على الرغم من ''دعاوى'' التمدّن وحقوق الإنسان، فقد ذهب الملايين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم ما كان من إلقاء القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي وحرب الإبادة التي تبناها النازيون، وحاليا في البلقان منذ عامين وما تدور من حرب إبادة. ثم تحدّث المحاضر عن أشكال ''القتل الرحيم''؛ إذ تتخذ صورا وأشكالا متعددة: مثل القتل العمد الذي يتم بفعل مباشر، كإعطاء المريض جرعة قاتلة من عقار الـBarbiturates أو الـCurare بنية القتل، وهذا الذي أقدم عليه الطبيب البريطاني Nigel Cox، حيث أعطى إحدى مريضاته التي تعاني الالتهاب المفصلي شبه الراثوي حقنة من كلوريد البوتاسيوم KCL؛ ما تسبب في توقف القلب، وكانت نيته الرحمة من هذه الآلام المستعصية بأقصر طريق وإلى الأبد. وبيّن أن ''القتل الرحيم'' له أحوال ثلاث: الإرادي، حيث تتم العملية بناءً على طلب المريض، واللاإرادي حيث تتم العملية دون إذن المريض، لكن بتقدير الطبيب، ونوع ثالث لا إرادي تتم العملية فيه كما في الحالة السابقة، مع فارق أن المريض هنا غير عاقل كأن يكون صغيرًا أو معتوهًا أو في غيبوبة. كما ذكر الدكتور عبد الجبار ديّة بعض الأشكال غير المحظورة، ومنها الموت الناجم عن إعطاء المسكنات، التي يطلق عليها قاعدة الأثر المزدوج الذي تأذن به الكنيسة الكاثوليكية، مشيرا إلى الموت الناجم عن إيقاف الأجهزة المساندة في حالة عدم وجود الأمل في استعادة الوعي وكان المريض في حكم ميت الدماغ، والموت الناجم عن إمساك العلاج. كما أوجز فلسفة الأخلاق اليوثانيزيا التي يستند إليها مؤيدوها، وكذلك الجدليات المضادة التي اعتمد عليها المعارضون كمن يرى أنها في مصلحة المريض ويستندون في ذلك إلى الحرية في تقرير المصير، وحدود الحريات، والحقوق، والرحمة، ونوعية الحياة. كما تحدث عن مصلحة الآخرين من الأقارب والأصدقاء والمجتمع في ذلك، والعامل الاقتصادي في توفير الخسائر المترتبة على ما يتلقاه المريض من عناية وتكاليف. واختتم المحاضر حديثه بسرد قرار المجتمع الفقهي الإسلامي بجدة في أيار (مايو) 1992 الذي يتضمن رفضه بشدة لما يُسمى (قتل الرحمة) بأي حال من الأحوال وأن الحل في الحالات الميئوس منها يخضع للتداوي والعلاج والأخذ بالأسباب التي أودعها الله، عز وجل، في الكون، ولا يجوز شرعا اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء، بإذن الله، وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض ورعايته وتخفيف آلامه النفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه.
إنشرها

أضف تعليق