Author

البابا يستقيل

|
شغلت استقالة البابا بينيدكتوس السادس عشر العالم ووسائل الإعلام، وكانت الحدث الذي نال حظاً كبيراً حتى في مجالسنا هنا في المملكة. وصول البابا لرئاسة الفاتيكان وهو يأتي من بافاريا في ألمانيا، كان حدثاً هو الآخر، لكن فترة رئاسته الفاتيكان كانت مليئة بالمصاعب و''المطبات''، من أهمها العلاقة غير المستقرة مع المسلمين. أحد أهم الأسباب لهذه العلاقة كان رفضه في الأساس لمفاهيم الإسلام، وحديثه المسيء عن المسلمين واتهامهم بالإرهاب في خطاب له في عام 2006 بعد أقل من عام من تعيينه رئيساً للفاتيكان، زاد الأمر سوءاً دعوته لحماية المسيحيين من المسلمين بعد حادث تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية عام 2011. أثارت تصريحات البابا غضب المسلمين في كل مكان، وحولت العلاقة بين المجمعات والمراكز الإسلامية والفاتيكان إلى الجمود، والعداء ''في بعض الأحيان''. لن أتحدث في هذا المقال عن العلاقة بين الإسلام والمسيحية ورؤية المسلمين لشركائهم المسيحيين في دول العالم الإسلامي، التي تعد أفضل بكثير من تعامل ونظرة المجتمعات المسيحية للمسلمين في أوروبا وغيرها من المناطق التي تضم أغلبية مسيحية. ولن أذكر بالتاريخ الإسلامي والحقوق التي ضمنتها الدول والخلافات الإسلامية على مر التاريخ للكتابيين، لأنه ليس هدف المقال. يهمني من الإشارة للبداية المضطربة بين البابا والعالم الإسلامي، أن هذا التأزم استغل من قبل أشخاص وجهات تحارب التقارب بين المسلمين والمسيحيين لتأزيم العلاقة بين المنتمين إلى الدينين. هذا التأزم انتشر - مع الأسف - بشكل كبير أدى إلى كثير من الاعتداءات والأذى لكلا طرفي المعادلة، نستطيع أن نربط بين الخلاف القائم في أروقة الفاتيكان والمنظمات والمراكز الإسلامية، وكثير من أعمال الاستفزاز والقتل والجرائم التي يمكن تصنيفها في خانة (العنف بين الأديان)، وما شاهدناه من عنف تجاه الدول التي وقعت تحت مطرقة الاحتلال أو العمليات العسكرية الغربية، مثل أفغانستان والعراق والآن في مالي. وبالتالي ظهرت بعض الاستفزازات والاعتداءات على بعض المنتمين لدين آخر في دول الربيع العربي. هذه النظرة التي تع المنتمين إلى دين آخر ''أعداء''، تسببت تاريخياً في حروب ضارية، واعتداءات شنتها الدول تحت رعاية الكنيسة للسيطرة على العالم باسم الدين. وهو ما جعل الدول التي عانت من هذه الحروب، تتبنى مفاهيم علمانية أو ليبرالية تبتعد بها عن الدين قدر الإمكان. استمرت الخلافات الدينية في تكوين العداوات حتى بين المنتمين إلى طائفة أو فئة من الدين نفسه، لتحول العالم إلى حروب باسم الدين حتى بين المنتمين إلى الدين الواحد، معلوم كم كان من الحروب والخلافات والكراهية بين طوائف المسيحية. وأكثر ظهوراً منها ''اليوم'' الحروب التي شنها المنتمون إلى مذهب مختلف في العالم الإسلامي. أثارت عودة الخميني إلى إيران الكثير من الحماس في كل دول العالم الإسلامي، لكنه لم يكد يصل أرض مطار طهران، حتى أعلن عن أنه ينوي تصدير ''الثورة'' إلى كل دول العالم الإسلامي، وكأننا لم نتعلم شيئاً من عصور ''الظلام'' التي عاشتها أوروبا خلال سنوات الحرب بين المنتمين إلى طوائف مختلفة. انتشار هذه الروح العدائية في العالم الإسلامي وما أدت إليه حتى اليوم، والمستقبل المظلم التي يتوقعه الجميع إن استمر هذا ''التمترس'' خلف الفتاوى الشاذة، والآراء العدائية التي يطلقها أشخاص قد لا يعلمون أثرها في مئات الملايين الذين يثقون بهم، وهم يظنون أن الخلاف الفكري لا يمكن أن يتحول إلى مادي، هي ما يحرم العالم الإسلامي من الفرصة التاريخية المتاحة للحاق بالعالم المتقدم، والتركيز على التنمية بدل التركيز على الأمن وعسكرة المجتمعات. يحدث اليوم تدخل سافر من قبل فرنسا في دولة ''إسلامية''. الكثير يتحدثون ويتندرون بأنها حرب ضد القاعدة. بينما العالمون بالحال في مالي يؤكدون أن حضور القاعدة لا يتجاوز 10 في المائة من المجموعات الإسلامية التي تحاربها فرنسا في مالي. أظن أن هذا الاعتداء ليس إلا انعكاساً للرؤية العالمية التي تسيطر على رؤساء الدول وبرلماناتها قبل شعوبها، بأن المخالفين للدين الذي ينتمون إليه هم في الواقع ''أعداء''، وقد يكون منشؤها تلك الرؤى التي يبثها رجال الدين. لمن يظن أن رؤيتي هذه خاطئة أقول، راجع التعامل الذي كان سائداً في كثير من الدول مثل الولايات المتحدة وأوروبا معك أنت أيها المسلم، وكيف كانوا يحترمون مفاهيم الإسلام ويدافعون عن المسلمين، وحالتهم اليوم التي نرى فيها كثيراً من الشك والريبة، واستصدار القوانين التي تحارب كل جزئية تميز المسلمين حتى ولو كانت ضمن إطار الحرية الشخصية التي تكفلها قوانينهم، كالحجاب أو أداء الصلاة في المساجد. لا أدعي أن للبابا علاقة بهذه الأمور، فهو قد يكون ضحية مثلنا للإملاءات والأحداث والربط الخاطئ بين ما هو شاذ وما هو إيمان راسخ في عقول الناس. لكن، عندما حكمت أمريكا بالشك والحرب ضد كل ما هو سعودي بسبب وجود 16 سعودياً في قائمة أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، كانت في واقع الأمر تحاكم 20 مليوناً وليس 16 شخصاً. هذا هو ما دفع نحو العمل على إيجاد حوار يحكم العلاقة بين الأديان، اعتماداً على ما يقربها بدل البناء على الاختلاف. ولست أدعي أن هذا قد يكون سبب استقالة ''الحبر الأعظم'' لكنني أتوقع أنه عندما راجع سنوات عمله في الفاتيكان، وإنجازاته مقارنة بسلفه، والرؤية القائمة بين المنتمين إلى الدينين لبعضهم خلال فترة رئاسته الفاتيكان، وجد أنه لا بد أن يعطي الفرصة لبديل أفضل يستطيع أن يعيد العلاقة بين ما يقارب ثلث سكان العالم الذين ينتمون للدينين، وهو ما نتمناه من البابا الجديد.
إنشرها