Author

الهروب إلى لندن!

|
أستاذ جامعي ـ السويد
لا أعلم لماذا أشتاق إلى لندن. البنى التحتية ومستوى المعيشة والحياة الهادئة الناعمة أفضل بكثير في السويد من لندن. والزوار البريطانيون الذي يزوروننا في الجامعة ـــ وهم كثر ــــ لا يصدقون أن هناك جامعة في الدنيا تملك بنايات ومكاتب وصفوف ومكتبة وخدمات مذهلة كالتي نملكها. بعضهم يقول إن الفرق في البنى التحتية في جامعتنا والسويد من جهة وبريطانيا من جهة أخرى قد يصل في بعض أوجهه إلى الفرق بين دولة متطورة ودولة من العالم الثالث. مع ذلك تبقى لندن و"ستوربريتانين" ـــ أي بريطانيا العظمى ــــ محط أنظار الملايين من السويديين. وما يدهشني هنا أن العالم برمته تقريبا قد تخلى عن مصطلح "بريطانيا العظمى" لا بل البريطانيون أنفسهم يستهزئون به إن أوردته أمامهم. ولكن ليس في السويد حيث "ستوربريتانين" هو المصطلح الشائع بين الناس وأظن أنهم يستخدمونه بصدق وبراءة، وهما خصلتان يمتاز بهما الشعب السويدي. يبلغ عدد سكان لندن الـ 13 مليون مرة ونصف تقريبا عدد سكان السويد التي مساحتها تقريبا بمقدار مساحة "بريطانيا العظمى". وسكان لندن خليط من أمم من شتى أصقاع الدنيا. لندن ربما هي المدينة الغربية الوحيدة في العالم التي لا يهتم المرء فيها إن كانت بشرته أو عيناه من هذا اللون أو ذاك أو زيه التقليدي من هذا الطراز أو ذاك. الناس تهرب إلى لندن وكل له قصة وما استقيته من زيارتي الأخيرة أن هذه المدينة تتحول تدريجيا إلى مدينة " للهاربين " من شتى أنحاء العالم لأنها ــــ ومعها "بريطانيا العظمى" اليوم ــــ تعمل ما بوسعها لجذب الثروة من أي بقعة كانت لتباطؤ اقتصادها ونموها. لم تفتح لندن أبوابها للمستثمرين في نظرها وسراق ثروات أوطانهم في نظر الآخرين بل جعلت من نفسها خيمة تمنح الإنسان درجة كبيرة من حرية الفكر والتعبير ما جعلها بمثابة "سوق عكاظ" الدنيا. ولا تستطيع أن تغض النظر وأنت تجوب شوارع لندن ولا سيما مركز المدينة وما حواليه عن "الهاربين" من العرب. شعار "العرب قادمون" كنت أسمعه في بداية السبعينيات أثناء تواجدي في جامعة ردنك. اليوم صار العرب جزءا مهما من سكان المدينة لهم أحياؤهم وشوارعهم الخاصة وهم في ازدياد لأن "الهروب" في استمرار. لا نعرف بالضبط مقدار الثروة التي يستثمرها العرب في هذا البلد إلا أنها في نطاق الأرقام الفلكية. يطلق العرب والبريطانيون عليها "استثمارات" ولكن عندما تتغير الأحوال تصبح "أموالا مهربة" يحق لبريطانيا حجزها. قصص شراء العرب لعقارات وأسهم وملاعب وأسواق وإيداع أموال في بنوك وصناديق وحجز أجنحة في فنادق فخمة وبمبالغ خيالية أو سياقة سيارات فارهة في شوارع لندن المكتظة الآن بالدراجات الهوائية أو ارتياد النوادي ومناظر رجال أو نساء مع خادماتهن وهن محملات بالبضائع المشتراة من الأسواق اللندنية وغيرها من الأمور غالبا ما تصبح مادة دسمة للجرائد الشعبية "تابلويد" ذات الانتشار الواسع. يتصور الهاربون إلى لندن بأموالهم أن مدخراتهم في منأى من الخطر. هذا صحيح لو كنت مواطنا لدولة قوية تستطيع إلحاق أذى مواز بلندن إن تجرأت على المس بمصالحك. كل استثمار عربي في لندن يحمل في طياته الكثير من المجازفة إن لم يكن المرء يحمل جواز سفر بريطاني. وقد يُعذَر الأغنياء بين العرب لتكديس أموالهم في لندن رغم المجازفة. الناظر اليوم إلى الشرق الأوسط يقشعر بدنه من الأحداث الجارية فيه. تصور أن الأغنياء العرب كانوا قد كدسوا أموالهم واستثماراتهم في العراق أو سورية أو ليبيا أو اليمن أو حتى.. وهلم جرا. الهروب إلى لندن كما يحدث لكثير من العرب إن كان لتكديس الأموال أو للتعبير بحرية عن آرائهم لا يؤشر إلى مستقبل بهيج لأوطانهم.
إنشرها