Author

حبّات البطاطس الباردة والشكوى

|
.. دخل الدكتور "نواف الفغم" مطعماً بمحطة على طريق الدمام - الرياض، ولم يكن بخياله أن تدور الأحداث كما حصلت داخل المطعم. طلب نصف دجاجة مشوية، وقدّموا له معها بطاطس مقلية، وفوجئ بأن البطاطس باردة، فطلب من المباشر أن يسخن البطاطس، ورفض مدير المطعم المتواجد تسخين البطاطس إلا بستة ريالات إضافية .. وهنا صعق الدكتور نواف، وقال: هل سيأتي يوم تحاسبوننا على الرائحة؟ وكان الفعل مدهشاً في تدنِّيه على الزبون. كيف اشتكى الدكتور نواف؟ رفع السماعة على مسؤول بالبلدية، وقال له إن مطعماً اسمه كذا في محطة كذا يكلف الزبائن مبلغاً إضافياً فقط ليقدم لهم بطاطس ساخنة!" ثم دارت الشكوى. هنا تجد شيئاً في الشكوى، أن الدكتور نواف لم يقل قدّموا لي بطاطس باردة، أو حاولوا أن يغشوني بستة ريالات إضافية فقط لكي يسخنوا حبّات ضئيلة من البطاطس المقلية؟ وهنا تتعدّى الشكوى حدود "الأنا المتعاظمة Ego" واعتبار أن الخطأ والإهانة وقعت على شخص الدكتور نواف، فلم يقل: "كيف تجرؤ أن تقدم لي بطاطس باردة؟ وكيف تهينني بطلب مبلغ إضافي لمجرد تسخين طعام أنت قدمته بارداً؟!" هنا ستكون "الأنا المتعاظمة" هي التي تعمل مع أنه مُحق، لكن لم يتعدَ دائرة نفسه. الشكوى الأولى كان بها نبلٌ وصدقٌ وخروجٌ عن الذات الضيقة لأنه احتجّ باسم جميع رواد المطعم الذي لا يعرفهم شخصياً ولا يريد أن يتعرّضوا لما تعرّض له. في الثانية - لو قال- ما كان يهمه إلا نفسه وبتلك للحظة. الشكوى التي تشمل حقَّ الجميع هي من الفضائل، بينما الشكوى التي تعني فقط الفرد ومن بعده فليأت الطوفان قد تكون حقّاً، لكنها حق ملفّع بغطاءٍ ثقيل من الأنانية.. شكوى لن تنفع في الإصلاح العام. الشكاؤون المتذمّرون، ولو كانوا على حق، ليسوا مصلحين ولا يهدفون إصلاحاً، إنما همّهم تأكيد الشعور بأنهم مظلومون وأن حقهم الفردي سُلب منهم، فيبدو - أحيانا- أنهم لا يريدون لسبب الشكوى أن ينتهي لأنهم يجدون متعة خفية أو ظاهرة بترديد الشكوى. وهناك نوع آخر يتصيّد الشكوى وإن كان السببُ خافتاً وليس قوياً كمسألة تسخين البطاطس، لأن لِلأنا رغبات إثبات النفس بإبداء الانتقاد العنيف، ليس الغرض إطفاء المشكلة وإنما إبراز الأنا المتعاظمة في لفت الانتباه بأن الشاكي فرد قوي ويجب أن يُحترم ويُقدَّر ويُنتَبَهُ لمركزه ووجاهته.. فتزيد المشكلة اشتعالاً من شرارةٍ هافتة كانت ستنطفئ من تلقائها.. ونجد بقصص التاريخ أن معظم الصراعات الإنسانية الكبرى هي من هذا النوع. وهناك الشكوى من الصديق أو من الأخ أو من الابن أو من الزوجة أو الزوج، بل حتى من الوالدين، وهي شكوى تضر الطرفين في النهاية الشاكي والمشكو عليه، فتحفر في النفوس آثاراً غائرة من نوع" وظلم ذوي القربي أشد مضاضة.." وتهدم العلاقاتِ، وتنفّر أعضاءَ الأسرة من بعضهم. لا يجب إظهار الشكوى بشكلها الجاف بين الأحباب والأقارب، لذا كان العتبُ الجميل، أو التنبيه اللطيف، أو الإشارة الذكية، الأجدى في حالة التربية بين الأب والأم وأبنائهما، وبين المعلم وتلاميذه، وبين الأصدقاء الخُلـَّص.. وبين الفريق العامل في مهمةٍ ما. وقد يسقط الإنسان في قبضة "الأنا المتعاظمة" إذا رأى أن من حقه أن تصل الخدمات لقدميه بدل أن يسعى لها، أو أن يصل للمكان العالي دون أن يخطو خطوة واحدة يحرّك بها عضلة واحدة لأنه ابن الأسرة الفلانية، أو لاعتقاده أنه يحمل أي صفة فوق الآخرين، فالفرص لا بد أن تُعرض أمامه فيختار. إن أكبر خمولٍ للعقل وإخمادٍ للهمة عدم التحايل للعيش أو السعي للإنجاز.. شاع بين الطلبة رمز الولد "مصطفى" للتفوق، وصار نكتة جارية، بينما كان يجب أن يكون رمزا يُقتدى، وهذا من وهم لعبة المفاهيم بالدماغ، فأدمغتنا تلعب علينا متى كثرت شكوانا وجفت أعمالنا.. هذا الخلط الوهمي العقلي في القياس هو الذي اخترع بامتياز صفات - غير مدحية - للمجتهدين، مثل دافورة أو دافور! وفي دولة ومجتمعات يكون فيها الجدية والإخلاص لمصلحة الوطن كقيمة وكمفهوم وكارتباط حيوي تُحمد الأفكار الجديدة التي تهدف إلى مزيد من التحرُّر المحسوب الذي يؤدي للإبداع والتطور وإشاعة العدل والعدالة بين الجميع. وفي أمة ومجتمع يقدم نُخَبا على الجموع أو على المعنى الوطني الحقيقي تكون الشكوى منصبّة على المنادين بالنفع الذي يحتاج إلى التجديد ليصل المبتغى. وترون أنها خيارات، فحتى الشكوى كالسكين.. بحدَّين!
إنشرها