Author

مشكلة: الغضب لا يبدو على السطح

|
''إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم'' صدق اللهُ العظيم. .. هل صحيح أن الطبيعة البشرية لا تغيرها الأحداث والظروف؟ سؤال شغل المؤرخين الأنثربولوجيين كثيرا، بعضهم أخذ الطرف الساكن بيباس فكري وقال إن الفكر البشري في الأصل وطبيعته لا يتغير إنما تتغير قشرته من الخارج ويبقى هو الإنسان القديم ذاته الذي يتوحش في سبيل البقاء. فهذا المؤرخ ''بيويك'' يقول شيئا عجيبا، فهو من أشد القائلين بثبات الطبيعة والصفات البشرية حين يقول: ''ما أشد التواءات التاريخ، لو لم يكون البشر على ما هم عليه لا يتغيرون''. ولم أرَ جمودا وعبارة تناقض نفسها مثل هذه، طيب يا حبيبنا ''بيويك'' مَن سبب تلك الالتواءات التاريخية؟ هل للتاريخ روحٌ وإرادة؟ لا روح ولا إرادة إلا لإنسان، لذا هو يتغير مع أي معطياتٍ خارجية طبيعية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ظرفية .. تغير الصفة البشرية وطرائق التفكير والحالة الذهنية والظرفية هي السبب في أن التاريخ يتلون ويلتوي ويتغير .. كمن يقولُ: ''نعيب الزمانَ والعيبُ فينا''، فلا للزمان ولا للتاريخ الذي هو سجل الزمان إرادة ولا روح. وتتعجب أن ''أناتول فرانس'' وهو كاتب يميل للفلسفة والتأريخ يقول في كتابه ''حديقة أبيقور'': ''بأعماق نفوسنا أساس من الطبيعة البشرية قابليته للتغيير أقل مما نظن'' .. ويزيد تعجبك من قول ''فرانس'' وهو نفسه من متقلبي الفكر الفرنسي وسريع التغير من الهدوء للمشاركة في الثورة، وعاش عصرا يفور بالتغيير بدأ بكل أوروبا وصب في الحي اللاتيني في باريس.. ويناقض نفسه بكتابه ''الآلهة العطشى'' التي حاز بها جائزة نوبل في الآداب عام 1919م ويقول: ''البشري الأكثر تغيرا بأعماقه، فهو حكيم حين يتكلم، ومليء بالسخافة وهو يتصرف''. بينما يتفق كبار المؤرخين الأنثربولوجيين مثل ''كولنجود'' Collingwood الذي يرى الطبيعة البشرية لا يسعها إلا أن تتغير، وكذلك قال المؤرخ ''رينيير'' وإن كان بصيغةٍ أخرى. بالأمس كنت أقرأ عن سيرة ''روبسبيير'' الثائر الفرنسي، ولاحظتُ أنه كان فتى خجولا، يحاكي النساء بنعومته ورقة عاطفته، لدرجة أن أسرة بناتها نساء لم تستطع التخلي عنه، فتعلقت به وصار لا يترك زيارتهم أبدا حتى مات، وهم الوحيدون في فرنسا من حزن عليه، مع أن صفاته انقلبت تماما. تصرف من الملك ''لويس'' جعله حانقا، لذا تعلق حتى القداسة - مع أنه شديد التدين - بكتاب وأفكار ''جان جاك روسّو'' ''العقد الاجتماعي'' الذي يتحدث عن العدالة الاجتماعية، وطبيعة العلاقة مع الفرد - الجماعة - الدولة، وصار يرجع لنصوصه قبل أي تصرف لما علا نجمه بعد الثورة الفرنسية، وصار باسم دستوره الجديد؛ كتاب روسو، يجد الأسباب لقطع أعناق آلاف من الناس بالمقصلة الشهيرة، وأجد هنا أن ''روبسبيير'' تغير تماما بفعل الحقد والغضب من السكون والخجل والنعومة إلى ديناميكيٍّ ثائرٍ وحاقدٍ وغضوب، والمفارقة أن رأسَه طار في ذات المقصلة .. ومن أصدقائه بالثورة. وتغير كامل الشعب الفرنسي، خصوصا أودعهم وهم من خضعوا سنين للظلم الإقطاعي الفاحش حيث كانوا يعملون ويدفعون الأتاوات ومن أراضيهم للملاك الذين يسيرون ويقيسون الاقطاعيات ثم يتملكونها .. وانقلبوا بشرا يملأهم الغضب ويموج بقلوبهم الحقد والانتقام .. وهم من اقتحم سجن ''الباستيل'' المشهور، وأطلقوا كلّ من فيه. لم يرَ التاريخُ الأنثربولوجي أكثر سلماً ودعةً من المصريين وهم في حالة سلم، ولكنهم ينقلبون جنودا بواسل في حالة الهجوم على بلدهم كما حصل حين هجم عليهم الهكسوس، وهجم عليهم أشد الجيوش بأسا ووحشية وهم المغول، ولو لم يصدهم المصريون لقضوا على بقية شمال إفريقيا .. وفي التاريخ القريب، قاموا مع عرابي باشا، وسعد زغلول، وهزوا العرش والاستعمار الإنجليزي .. وقبل ذلك كيف غيرتهم أيام الإنجليز والحاكم الشهير ''كرومر'' في ''رشيد'' حادثة ظلم وشنق من قبل سلطة الاحتلال، حتى ثورتهم هذه اليانايرية. ولقد ثارت شعوبٌ، بعد أن اُعْتِقد أنها تدجّنت مع التعسف بأنواعه، ضد ‏الطاغية في العصر الوسيط، وضد كل متحكم وظالم مسيطر، وضد الشيوعية، وضد الفاشية، وحرب الشعب ضد الفلنجية – وهي الفاشية الإسبانية - والثورة على الاستعمار في كل مكان، وفي ما يحدث من الفظائع في سورية. الحقيقة الباقية أن الناس يتغيرون، وأنهم ليسوا كما يبدون في حالة الظلم والقهر والفقر ساكنين، بل هو هدوء يسبق الأعاصير، غضبات ثائرة تتشكل تحت الأعماق ثم تثور فوق السطح .
إنشرها