Author

هاجمنا.. فهاجموه!

|
.. ما مدى نجاح سلطاتنا الصحية في إبراز موضوع صحي مهم آثاره خطرة في حالة الإهمال بقلة التوعية؟ وأقصد الموضوع المتعلق بالصحة العقلية. ينشغل العالم الآن أكثر من أي وقت مضى بالحالة الصحية العقلية، فالأمراض المتعلقة بخلل عقلي ونطلق عليه "عصابياً" أو "نفسياً"، بسبب الإيقاع الذي سمّاه "تي إس إليوت" الشاعر الشهير في أوائل القرن الماضي، الإيقاع المجنون للحياة العصرية. قال "توماس إليوت" هذا الكلام في قصيدة شهيرة له بعد رجوعه كاثوليكياً مؤمناً بعد رحلة شك وإلحاد، وعانى من الإيقاع العصري، فرحل من الإيقاع الأمريكي السريع إلى الريف البريطاني ومات بريطانياً. والحياة الآن فيها كثير من مسبّبات هجوم الرعبPanic Attack سواء في إيقاع الحياة اليومي الضاغط من الدراسة إلى البحث عن عمل إلى إنشاء أسرة ومحاولة النجاة بها في خضم أمواج الحياة.. إلى الحوادث والكوارث وفظاعات الحروب كالتي تجري بجانبنا في سورية وفلسطين.. إن الحياة الآن للناس في كل المستويات وبلا تفرقة عُرضة للحملات النفسية والإرباكات العقلية، بالأمس جاءنا خبر انهيار نفسي لرجل أعمال نتيجة متغيرات السوق المفاجئة، وكان الناس يظنون أنه يعيش في نعيم أرضي. لا أحد مُستثنى ممّا نسميه بأحسن الحالات.. الإرباك العقلي. ونحن مجتمع أكثر عُرضة من غيره للإرباك العقلي - وأرجو أن تصدقوني - فنحن انتقلنا فجأة من بداوة إلى حضارة سريعة ولم يكن الانتقال مربكاً كثيراً، كانت البداوة بسيطة في تعاملها مع الظرف الحياتي والنقلة السريعة أول مجيء النفط بقيت في ثغور النفط مدينة أو مدينتين كبيرتين، وكانت حياة بلا إرباكات حقيقية، بل ارتاح كثيرون للراحة الجديدة، والدخل المنتظم بمجتمع غير معقد وبدت الحياة زاهية. ثم انتقلنا لرتم سريع بالتنمية ونمت أفكار مجتمعية زاخمة ومفاجئة، ودخلت السياسة من أوسع باب في الخمسينيات، والنظريات المادية الكبرى، والخمسينيات أكثر عقداً فارت فيه الأفكار الاجتماعية والسياسية والثورية وكأن العالم يتشكّل من جديد، وأثّر نفسياً وعقلياً على شباب الخمسينيات في بلادنا الذين صاروا يقرأون وينشرون الأفكار بعيدة عن عروقهم التي بالأرض. ثم رتم جديد، وهو مظاهر الحياة القشيبة وتسمية طبقات الحياة بصفات تدل على التوق للطبقة المخملية، وهذا صحب معه عامل الحالة الذهنية، فكان الفقير يتوق أن يكون مخملياً لمظهر ساد وبطَر، وسادت حالة ذهنية لمَن ملكوا المظهر المخملي فظنوا أن هذا ما يرفعهم عن بقية البشر. ثم جاءت فترة الواقع الصادم لما جفّت الوظائف، وانتشرت الحاجة، وتوافد العاملون بغير انتظام ولا تمحيص من كل قطر، وبالذات من دول تعاني الفقر والجريمة، واختل المجتمع اختلالاً مفزعاً.. فتزعزعت الحالة الأمنية من القادمين ومن أصحاب الحاجة من المواطنين أو الميّالين للجريمة، وأخذوا فنوناً ودروساً واقتداءً من الوافدين.. ثم عُمِّمَتْ بحالةٍ نفسية صفات على الوافدين وبينهم جماعات أفادت وخدمت وأعطت صورة بهية بسمعتها وتعاملها ورقيها.. إلا أن الناس يريحون أنفسهم بالستريوتايبنج "التعميم"، وأقصد بالناس كل الناس بكل بلد. وهذه الضغوط في الخوف من الحاضر، والرهبة من المستقبل، وحوادث تتكرّر عياناً جهاراً في الشوارع، وسرقة البيوت والسيارات وتخريب الممتلكات، إنما هي إرهاصات حالات ذهنية ترسم صورة في عقول مَن يقوم بها، غير ما يجري في الواقع والحقيقة.. وهذا ما يزعزع راحة أي أمة بالدنيا. كنا نتغنى بالأمان، والأبواب المفتوحة، الآن مَن يقولها يعرف أنه لا يكون دقيقاً، أو أنه يتمنى أمْناً سمع عنه من أجيال سبقته.. وأنا لا أتعرّض هنا للسلطة الأمنية، إنما السلطة الصحية لأصل لنقطتي أننا معرَّضون أكثر من غيرنا للإرباكات العقلية، لأنه مع الدواعي لا توجد المخارج. في جدول الإنسان الغربي صار في جدوله من العاديات أن يزوره طبيبه أو مستشاره النفسي.. هذا في الظرف العادي. نحن ماذا نجد؟ أترك الإجابة للسلطة الصحية التي تحذّر بخبرائها من طريقة تعاملنا مع الحالات العقلية، فوق تقاليد لا تعتبر المرض النفسي مرضاً، بل شيئاً يتعامل معه بخفاءٍ.. تماماً كالعار. نرجو أن تكون هناك هيئة منفصلة تعود مباشرة لوزير الصحة يكون هدفها إنماء للتوعية حول الأمراض النفسية والعقلية، ومتابعة مؤشراتها في المجتمع ورفعها للوزير لمناقشة تخصيصاتها المالية والوظيفية، وتعد الاتفاقيات مع كل وسائل الإعلام من الإذاعة والصحف والتلفزيون إلى وسائط الإعلام الافتراضي.. يكون هدفها الذي تؤمن به: من حق كل شخص فهم الأمراض العقلية ومدى وجودها في مجتمعنا وكيفية التعامل معها، قبل حتى الشروع بخطة التنفيذ لبنية تحتية تعم البلاد للتصدّي.. لهجوم الرعب!
إنشرها