Author

دروس مستفادة من اتفاقيات الاتحاد الأوروبي

|
يمتلك الاتحاد الأوروبي - المكون من 27 دولة - قوة اقتصادية وتجارية مهمة ومؤثرة أهلته لأن يحتل المرتبة الأولى عالميا بين الدول المصدرة وثانيًا كأكبر مستورد، وعلى الرغم من تداعيات الأزمة المالية العالمية إلا أنه ما زال يمثل أكبر اقتصاد على مستوى العالم بناتج إجمالي عام بلغ 16.6 تريليون دولار لعام 2012م. ويكمن سر تحقيق هذا النجاح الباهر في اندماج 27 دولة صناعية في كيان اقتصادي موحد وفريد من نوعه يسمح بتنقل البضائع والخدمات ورؤوس الأموال وكذلك تنقل مواطني دول الاتحاد عبر الحدود بحرية تامة، ما فتح الأسواق أمام الصادرات وأدى إلى تنمية قدرات المنتجات التنافسية ومن ثم ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي لهذه الدول، كما ساهم تبني 16 دولة منها عملة نقدية موحدة في تجسيد هذا الاندماج الاقتصادي. لقد ظل توحيد أوروبا حلماً يراود زعماءها منذ عهود أباطرة روما حتى الحرب العالمية الثانية، لكن لم تتمكن دول أوروبا من تحقيق الوحدة فعلياً، رغم اختلاف لغاتها وتعدد ثقافاتها، إلا من خلال التجارة، وذلك خلال العقود القليلة الماضية نتيجة توسع الأنشطة الاقتصادية في تلك الدول الصناعية. فقد ارتفعت معدلات التجارة بنسب كبيرة فيما بين صناعاتها المختلفة نظرا لتجاور هذه الدول بعضها البعض وتوثقت علاقاتها المالية بشكل كبير. وكما هو معلوم فإن وراء هذا الاندماج الأوروبي اعتبارات سياسية وأمنية أيضا، بيد أن الهدف العام للمجتمعات الأوروبية كان إنشاء سوق مشتركة تتلاشى فيها جميع المعوقات التي تقيد مرور البضائع والعمالة والخدمات وكذلك رؤوس الأموال على أسس قانونية واضحة تحدد أطر التعاون المشترك من خلال معاهدات واتفاقيات بين هذه الدول. وبدأ هذا الاندماج بمجموعة من ست دول في عام 1951 إلى أن بلغ عدد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي 27 دولة في عام 2007. ويلعب الاتحاد الأوروبي اليوم دوراً بارزاً في العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية بسبب حجمه وثقله الاقتصادي. وليست كل الدول الأوروبية أعضاء في الاتحاد، فهناك دول عدة لم تتمكن بعد من التأهل للانضمام، كما أن بعض الدول لم ترغب في فكرة الاتحاد منذ البداية. فعلى سبيل المثال لم تنضم بعد كل من آيسلندا وكرواتيا وصربيا وتركيا وغيرها، كما آثر الناخبون في سويسرا والنرويج عدم الانضمام إلى الاتحاد والبقاء خارج المنظومة. ومع هذا فإن الاتحاد الأوروبي يحافظ على علاقات حميمة مع جميع جيرانه ويسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية لديهم، ومن أجل تحقيق الأهداف المشتركة وبناء موقف اقتصادي قوي يستطيع مواجهة التكتلات الاقتصادية الكبرى قام الاتحاد الأوروبي بتطوير نماذج عضوية لبعض الدول الأوروبية غير الأعضاء من خلال إبرام معاهدات معها للاستفادة من مزايا التجارة الحرة مع بقية دول الاتحاد عبر تمكينها من دخول السوق الأوروبية الموحدة. ولعل أنجح نموذجين هما: اتفاقية المنطقة الاقتصادية الأوروبية EEA مع كل من آيسلندا والنرويج وليختنشتاين، التي اتسمت بنمط تفاوضي متعدد الأطراف، والنموذج الفريد للاتفاقيات الثنائية مع سويسرا. وتعتبر اتفاقية المنطقة الاقتصادية الأوروبية أكثر اتفاقية معقدة أبرمها الاتحاد الأوروبي مع أي دولة من حيث التفاصيل القانونية والفنية. وتمتاز هذه الاتفاقية بالعلاقة التعاقدية التعددية مع الاتحاد وكذلك تركيبها المؤسساتي الشمولي وإمكانيتها تبني قوانين جديدة من خلال آلياتها المرنة. وباختصار فإنه بموجب هذه الاتفاقية تستطيع كل من آيسلندا والنرويج وليختنشتاين من دخول السوق الأوروبية الموحدة بمميزات أعضائها نفسها، لكن من دون عضوية الاتحاد، كما تمكن الاتفاقية هذه الدول من المشاركة وبفاعلية في مختلف هيئات الاتحاد والاجتماعات التشريعية. في حين يختلف نموذج الاتفاقيات الثنائية مع سويسرا كثيراً، وهو أقل تعقيداً وشمولية، حيث إنه يتناول قطاعات محدودة بحسب رغبة ومصالح الطرفين (سويسرا والاتحاد الأوروبي) لكنها لا تشمل التعاون في المجالات كافة. ولا تعطي هذه الاتفاقية الجانب السويسري الحق في المشاركة في الاجتماعات التشريعية للاتحاد إلا بدعوة رسمية وبصفة مراقب. يستمر العمل بهاتين الاتفاقيتين بصورة ناجحة فهي توفر نماذج لصيغة تعاون بديلة للاتحاد الأوروبي مع بقية جيرانه وشبه اندماج اقتصادي معهم من دون الحاجة إلى الحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد. والجدير بالذكر أن التوصل إلى هذه الاتفاقيات استغرق سنوات طويلة ومر بمراحل تفاوض معقدة، وهي في الواقع تعكس العلاقات الاستثنائية للاتحاد مع هذه الدول دون سواها، ما سمح بتوافر درجة عالية من المرونة والتي سيكون من الصعب جداً تكرارها في المستقبل مع أي من الدول الأوروبية الثماني المتبقية خارج الاتحاد أو حتى مع بعض دول شمال إفريقيا التي أبدت رغبتها في الانضمام. ومن خلال الاستعراض السابق يتضح دور إطار الاتفاقيات التجارية في تكوين تكتلات اقتصادية للدول المتجاورة وأثره في تعزيز التبادل التجاري والاستثمارات بين تلك الدول، ونجد في تجارب الاتحاد الأوروبي نماذج ناجحة يمكن الاستفادة منها في مجتمعاتنا العربية التي تطمح إلى تحقيق اندماج اقتصادي كامل بلا حواجز تعترض الحركة التجارية بين البلاد العربية وصولاً إلى إنشاء المنطقة الحرة العربية التي دعا إليها وزير المالية قبل أيام عدة.
إنشرها