Author

«أخبرني من أثق به...»

|
نحن لا نتفق في أفكارنا ورؤيتنا للعالم، لأننا ننظر إلى الشيء الواحد بخلفيات متباينة، فيفهمه كل منا على نحو مختلف. ولهذا السبب أيضا، فإن النقاش بين المنتمين إلى تيارات مختلفة، لا يؤدي غالبا إلى الاتفاق على نتيجة واحدة، أو تسليم أحدهما برأي الآخر مهما قويت أدلته. هذه خلاصة الرؤية التي قدمها المفكر الأمريكي توماس كون في نقده القائلين: إن التجربة العملية برهان على سلامة الفكرة أو خطئها. خصص كون كتابه الشهير ''بنية الثورات العلمية'' لشرح مفهوم النسق=paradigm، وكيف تتقاطع في داخله القضايا العلمية البحتة مع المصالح الاجتماعية، التي تحكمها في معظم الأحوال تصورات انطباعية وغير علمية بالمعنى الدقيق. النسق أو الباراديم -كما صاغه كون- نظام إطاري شبه مغلق، يمنح أتباعه هوية جمعية تميزهم عن غيرهم. يتضمن هذا الإطار نظريات ومناهج تفكير وعمل، وهيكل علاقات وتراتب، يتعامل معها الأعضاء كمسلَّمات. مجموع هذه الاعتبارات هي أشبه بأيديولوجيا، تقدم نفسها كصورة حقيقية للعالم. كل شيء داخل النسق يعتبره الأعضاء -أو الأتباع- صحيحا ومعياريا، وليس موضوعا للنقاش. وبالعكس من ذلك فكل شيء خارج النسق مرفوض، أو على الأقل مشكوك وموضع مساءلة. يستريح الإنسان -غريزيا- إلى الأشخاص الذين يألفهم ويشاركونه آراءه وميوله ولغته وطريقة عيشه. ويستريح أكثر إلى من يتبعونه ويقدرونه ويخدمونه. ولهذا فهو يتعامل مع المعلومات التي ينقلونها إليه بقدر كبير من الثقة، ويقبلها دون نقاش. كما يميل إلى قول الآراء التي تستجيب لرغباتهم، وتلبي تطلعاتهم، وتعزز علاقتهم به. مقولة: ''أخبرني من أثق به..'' مثال واحد على هذا السلوك. تقوم هذه العلاقة بين المنتمين إلى نسق واحد. وهي أكثر تركيزا بين الأشخاص الذين يطورون رابطة أعمق فيما بينهم، مثل الانتماء إلى تيار سياسي أو فكري واحد، أو جماعة نشاط واحدة. حيث تضاف إلى الألفة والقرب الاجتماعي، وحدة الأفكار والأهداف والمواقف والهموم. ويصل التوحد إلى أعلى درجاته في مرحلة ''التنميط''، حين يتفق أولئك الأشخاص على صفة أو بصمة تعبر عن مجموعتهم، وأخرى تعبر عن كل فريق من المجموعات المنافسة. صراعات الطوائف والأحزاب والمجموعات الدينية، النشطة حاليا في بلادنا وحولها، تكشف عن قوة تأثير النسق في سلوك الأفراد، القادة وأتباعهم على حد سواء، إلا ما قلّ وندر. تزداد أهمية النسق في ظروف التأزم. وتلعب الثقافة دورا جديدا يتمثل في حراسة الجماعة، حزبا كانت أو تيارا أو مذهبا. وفي ظرف كهذا، يصبح الصراع عاملا مؤثرا في فهم المصادر الثقافية، وبينها الدين. لذا نجد اللغة الدينية مستعملة بكثافة في الصراع بين الفرقاء الذين ينتمون جميعا إلى دين واحد، لكنهم يستعملون مصادره بطرق متباينة، ولأغراض متعارضة.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها