Author

الميزانيات الصحية الضخمة كيف نعكس أثرها؟

|
مختص في التمويل والتنظيم وأكاديمي
هناك شبه إجماع على أن الميزانيات المخصصة للصحة قد لا تكون المعضلة الرئيسة خلف تردي مستوى الخدمات الصحية. لكن المشكلة تكمن في كيفية إدارتها وتحقيق الاستفادة منها، وفقا لاحتياجات البلد الصحية، لذا يبقى السؤال الحيوي حول السُبل العملية التي تضمن استفادة ملموسة من الميزانيات الصحية على أرض الواقع في ظل وفرة مالية غير مسبوقة؟ كان من المفترض أن تكون استراتيجية وزارة الصحة الصادرة عام 2010 قد أسهبت بالإجابة عن هذا السؤال المهم، لكن استراتيجية وزارة الصحة لم تتطرق له، بل كان تركيزها منحصرا حول كيفية إقناع صانع القرار على أهمية زيادة الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي دون التركيز على كيفية التأكد من انعكاس هذه النفقات الضخمة على واقع الخدمات الصحية. فمع الأسف، استراتيجية الوزارة لم تقنع صانع القرار أو قارئها بأن كل زيادة على الإنفاق الحكومي على الصحة سيؤدي إلى زيادة في المخرجات الصحية بصورة يلامسها المواطن بصورة إيجابية ومباشرة. كنت قد كتبت مقالا قبل أكثر من خمس سنوات في جريدة ''الاقتصادية'' (عدد 5165 عام 2007) تحدثت فيه بإسهاب عن أهمية تغيير الصورة الحالية من الميزانية السنوية Budget Format في ظل وفرة المخصصات المالية للقطاع الصحي. وذكرت وقتها أن وزارة الصحة ركّزت على زيادة أعداد المستشفيات أو مراكز الرعاية الصحية المقرر إنشاؤها كل عام، لكنها لم تركز على المخرجات المتوقعة من جراء تشييدها، فوزارة الصحة لم تحاول إقناع قارئها بأن سياسة تشييد مزيد من المستشفيات أو المراكز الصحية سيسهم في رفع مستوى الخدمات الصحية المقدمة مستقبلا، فمثلا كانت من ضمن خطط وزارة الصحة السابقة تشييد ألفي مركز صحي، هذه الاستراتيجية لا يمكنها ضمان أن إنشاء هذه المراكز سيسهم في رفع مستوى الخدمات الصحية بجودة عالية، لذا فإن هذه الاستراتيجية لا يمكنها أن تحقق غايتها إلا إذا تم تزويدها بالكفاءات الطبية والتجهيزية والفنية اللازمة. فتشييد مراكز الرعاية الأولية دون توافر الكادر الطبي والتمريضي والفني والإداري المؤهلة أو خلوها من التجهيزات الضرورية لا يعني بالضرورة أنها ستحقق الغاية التي من أجلها شيدت. فقياس إنتاجية مراكز الرعاية الأولية يجب ألا يكون بزيادة أعدادها أو عدد زيارات المرضى لها، لكن بمخرجات تلك المراكز ومدى إسهامها عمليا في تخفيف طوابير الانتظار في المستشفيات، إضافة إلى إسهامها في زيادة الوعي الصحي، كما ذكرت ذلك في أكثر من مقال. فأطباء القلب -مثلا- يؤمنون بأن كثيرا من الحالات الحرجة التي تأتي عيادتهم يمكن تقليل مضاعفاتها -بمشيئة الله- لو قامت مراكز الرعاية الصحية بالواجبات المنوطة بها خير قيام. لكن -مع الأسف- سياسة صرف الميزانيات من أجل زيادة أعداد المستشفيات أو أعداد المراكز الصحية يعد أكثر جاذبية من سياسة تطوير مستوى الخدمات الصحية، لكون الأول رقما ملموسا Tangible Services، أما الخيار الثاني فليس له واقع ملموس أو رقم ملموس، لذا نجد أن تطوير مستوى الخدمة قد لا يكون له رونق تشييد مزيد من المستشفيات. كما أن طريقة اعتماد الميزانية من قبل وزارة المالية تحفز وزارة الصحة، لأن تركز على سياسة الإنشاء بدلا من التركيز على رفع الجودة الصحية (سبق أن دعوت لإنشاء هيئة للجودة الصحية في عدد 6922 عام 2012). فزيارة المريض للمستشفى أو للمركز الصحي لا تعني بالضرورة أن المريض حقق الهدف الذي من أجله ذهب للمستشفى أو للمركز إذا لم يتلق الرعاية الصحية المطلوبة، فضلا عن أن يصاب بمضاعفات سلبية لزيارته. لذا فإن كثيرا من طوابير الانتظار في المستشفيات التخصصية كان من الممكن تخفيفها لو قامت مراكز الرعاية الأولية بواجباتها خير قيام، وكان لإدارة مراكز الرعاية الأولية المحفزات لتحقق هذه الغاية، كما أوضحت كيفية تحقيق هذه الغاية (عدد 5858 - عام 2009). وزارة المالية في حاجة إلى تغيير الصورة التقليدية لميزانيتها السنوية line Items Budget وتبني صورة ميزانية البرامج Program Budget من أجل تحقيق استفادة قصوى من الميزانيات المخصصة وضبطها بمخرجات حقيقية بدلا من التركيز على أرقام كبيرة في حجمها، لكنها ضعيفة في أثرها. لقد حققت صورة ميزانية البرامج نجاحا مذهلا عندما تم تطبيقها لدى بعض الولايات في الولايات المتحدة، خصوصا المدن والولايات الغنية منها إبان إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1999. أما على المستوى العربي فإن الخطة الاستراتيجية الصحية لقطر الصادرة عام 2011 تحدثت باستفاضة عن تغيير آلية الميزانيات إلى ميزانيات بصورة performance budget or program budget ، كما تحدثت عن أهمية قياس تكلفة الخدمات الصحية، وهو ما تطرقت إليه في عشرات المقالات. كما أن الجميل في الاستراتيجية الصحية لقطر الشقيقة أنها لم تستعجل في تبني أحد نماذج التأمين الصحي قبل التأكد من وجود الأرضية اللازمة للتطبيق. كما أن الاستراتيجية الصحية لقطر فيها من التفاصيل المهمة والنظرة المتكاملة في الكيفية التي سيكون عليها نظامها الصحي بما في ذلك الانتقال من lamp sum budget إلى الميزانيات التي سبق أن دعوت لها قبل أكثر من خمس سنوات. كما أن الخطة الاستراتيجية الصحية لقطر وضعت لها آليات تنفيذ تم الاتفاق عليها مع التنسيق مع الوزارات ذات العلاقة من أجل ضمان أن تحقق الاستراتيجية أهدافها بصورة صحيحة. لقد سعدت كثيرا بالتوجه الإيجابي لقطر في استراتيجيتها الصحية، ولعل نجاحها سيساعد الدول المحيطة، بما فيها المملكة، لأخذ خطوات مماثلة (لا يعني هذا أن الإشادة بالاستراتيجية الصحية لقطر عدم وجود تحفظ على بعض بنودها وتوجهاتها).
إنشرها