Author

الموازنة العامة للدولة.. من الإنفاق السخي إلى كفاءة التوزيع

|
يمثل الإنفاق الحكومي في اقتصاد ريعي كالاقتصاد السعودي إحدى أهم ركائزه إن لم يكن المحرك الأساس لجميع الأنشطة الاقتصادية. فالحكومة تضطلع بدور كبير في التنمية الاقتصادية وتأخذ على عاتقها المسؤولية الأكبر في تقديم الخدمات وإنتاج السلع إن لم يكن مباشرا فبطريقة غير مباشرة يصل حد القول إنه لا يكاد يكون هناك قطاع خاص! فالحكومة تتكفل بالمنشآت الخاص وتحتضنها منذ التأسيس عبر قروض كبيرة وميسرة ودون فوائد، ومن ثم تضمن تسويق المنتج من خلال نظام المشتريات الحكومية الذي يلزم الأجهزة والمشروعات الحكومية باستخدام المنتجات الوطنية. لذا يمكن القول إن رجال الأعمال هم في حقيقة الأمر يعملون لدى القطاع العام بدليل أن أكثر الشركات لا تستطيع الاستمرار دون الإنفاق الحكومي. وبنظرة فاحصة للمشروعات الحكومية نجد سيطرة كبيرة لشركات تعد على أصابع اليد الواحدة، خاصة تلك المشروعات التي تشكل نسبة كبيرة من الإنفاق العام مثل المشروعات المدنية بما في ذلك الجسور والطرق والمطارات والجامعات وتطوير المدن بشكل عام، ما يجعل هناك حالة استقطاب للإنفاق الحكومي من قبل تلك الشركات وانحسار المنفعة في الفئات الأكثر حظا اقتصاديا. وربما فسر ذلك وجود فئات فقيرة في المجتمع على الرغم من الإنفاق السخي للدولة والحرص على رفع مستوى معيشة المواطن. فالتركيز على حجم الإنفاق والمخصصات المالية لكل قطاع دون ربطه بالمخرجات والتأثير النهائي يحول دون توسيع دائرة المستفيدين من ذلك الإنفاق السخي، بل إن الأرقام الكبيرة للميزانية تدفع بسقف التوقعات لدى المواطنين للأعلى، لكن ما تلبث آلية التنفيذ أن تصيبهم بالإحباط. وهذه الفجوة بين التوقعات وواقع الحال على الأرض أمر يجب الالتفات إليه والاهتمام به ومعالجته. وهو أمر ليس يخفى على ولاة الأمر، ففي أكثر من مناسبة يوجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله أنه لا عذر للمسؤولين الحكوميين في تنفيذ المشاريع والسعي في تلبية احتياجات المواطنين ومعالجة مشكلاتهم. إلا أن التنظيم والتفكير البيروقراطي يقف حجر عثرة أمام طموحات وتطلعات الإرادة السياسية فيكون الهم صرف المخصصات قبل انتهاء السنة المالية بما ينسجم مع ميزانية البنود العقيمة التي لا تربط المخصصات بالأداء. وعندما يتحول الإجراء إلى هدف فثمة العقبة الكؤود للتنمية والرخاء الاقتصادي لأن القرار يتحول من التركيز على تحقيق الهدف والتأثير النهائي إلى التأكد من الإجراءات الورقية يتم استيفاؤها بغض النظر عن تحقق المقصد الأساس منها وهو خدمة المواطن. وهكذا يصبح هناك انكفاء للداخل في الأجهزة الحكومية تصعب معه رؤية المتغيرات والمستجدات في البيئة، وبالتالي تظل تلك البيروقراطيات تمارس النمطية ذاتها في الأداء الروتيني والاستمرار في نهج الإنفاق من أجل استيفاء المتطلبات الورقية وليس تلبية احتياجات المواطن. هذا الوضع الإداري الضبابي والعشوائي يعمل لمصلحة المتنفذين من أصحاب المصالح الخاصة للحصول على أكبر قطعة من الكعكة الاقتصادية بعقود تنفيذ المشاريع الضخمة ومن ثم تبدأ سلسلة طويلة من التعاقدات من الباطن تنتهي بأن ينفذ المشروع الذي يكلف ملايين الريالات عدد من العمالة الأجنبية الرخيصة غير المدربة. إن توزيع الدخل ومقدار استفادة مكونات المجتمع على اختلاف مستوياتهم الاقتصادية لا يقف عند المنافع المباشرة من الإنفاق الحكومي، بل يتعداه إلى الخدمات العامة والبنى التحتية والفوقية، فمقدار استفادة رجل الأعمال اقتصاديا من الطريق السريع الذي يربط مدينتين على سبيل المثال أكبر بكثير مما يستفيده المواطن العادي، فالطريق السريع يسهل نقل بضائعه وتوزيعها في الأسواق، وبالتالي زيادة أرباحه دون أن يُطالب بدفع تكاليف الاستفادة من تلك الخدمات العامة. وإذا ما كانت الحجة في أن هذا يأتي من باب المساواة بين المواطنين، فليس من العدل المساواة في حال تفاوتت الفرص والمنافع التي يجنيها الأفراد في المجتمع من الخدمات العامة. هكذا إذ يستفيد الأكثر حظا من الإنفاق الحكومي مقارنة بالفئات الأقل حظا اقتصاديا وإذا ما استمر الوضع في هذا الاتجاه فسيكون هناك انحسار للطبقة الوسطى، العمود الفقري للمجتمع ومرتكز التوازن والانضباط الاجتماعي. بل إن معظم ما يحدث في كثير من البلدان من قلاقل واختلال في الأمن سببه الرئيس اضمحلال الطبقة الوسطى. الخطير في الأمر أن هذا الانحسار في الطبقة الوسطى لا يمكن إدراكه في ظل الأرقام الضخمة للإنفاق الحكومي التي تمنح شعوراً وهمياً بأن كل شيء على ما يرام. هناك ضرورة لكسر احتكار الشركات الكبيرة لعملية تنفيذ المشاريع الحكومية الضخمة واستحواذها على النسبة الأكبر من الإنفاق الحكومي واعتمادها على العمالة الأجنبية. إن إنشاء شركات حكومية مساهمة تقوم بالأعمال المدنية وتنفيذ المشروعات الحكومية قد يكون الحل الأمثل وآلية لتوسيع دائرة الاستفادة من الإنفاق الحكومي. هذه الشركات الحكومية المقترحة تقوم على الفكرة ذاتها التي قامت عليها "سابك" النموذج المميز للعمل الحكومي بحيث تمتلك الدول جزءا منها ويطرح الجزء الآخر للاكتتاب العام ليستفيد عموم المواطنين اقتصاديا، كما أن هذه الشركات تخلق وظائف بتقنيات وأجور عالية تتناسب مع مؤهلات خريجي الجامعات الوطنية والعالمية. بهذا تكون لدينا آلية لتوزيع الدخل ذات كفاءة عالية تسهم في رفع مستوى معيشة المواطنين، وفي الوقت ذاته ترفع من معدلات نمو الاقتصاد الوطني. لقد حان الوقت للتحول من الاهتمام فقط بزيادة الإنفاق إلى التركيز على آلية توزيع الدخل بكفاءة وفاعلية بما يحقق طموحات وتطلعات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله وولي عهده الأمين الأمير سلمان - حفظهما الله - ذخرا للوطن والمواطنين.
إنشرها