Author

من أين لك هذا؟

|
سؤال وضع قاعدته الخليفة الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي قال عنه الأعداء قبل الأصدقاء: ''عدلت فأمنت فنمت...''. فقد كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - وكان عامله على مصر‏: ''أما بعد... فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد‏، وعهدي بك قبل ذلك ألا مال لك، فاكتب إليَّ من أين أصل هذا المال، ولا تخفي عني شيئًا''. كان عمر يبدأ بمحاسبة نفسه وأهل بيته ثم من يلوونهم، حتى إذا طبق ممارساته العدلية على الرعية لا يأتيه من يقول: وما بال أهل بيتك يا عمر؟ ولا يأتي متهم فيقول: ظلَم البعيد وتغاضى عن القريب. كان القدوة لمن حوله فأصبح النموذج لمن بعده. وقصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مشهورة معروفة حين خطب الجمعة بالناس - وكان قد أتته ثياب من اليمن فوزعها على المسلمين لكل مسلم ثوب - فبدأ الخطبة وعليه ثوبان، وقال: أيها الناس، اسمعوا وعوا. فقام سلمان من وسط المسجد، وقال: والله لا نسمع ولا نطيع. فتوقف واضطرب المسجد، وقال: ما لك يا سلمان؟ قال: تلبس ثوبين وتلبسنا ثوبا ثوبا ونسمع ونطيع! قال عمر: يا عبد الله قم أجب سلمان. فقام عبد الله بن عمر يبرر لسلمان فقال: هذا ثوبي الذي هو قسمي مع المسلمين أعطيته أبي. فبكى سلمان، وقال: الآن قُلْ نسمع، وأمر نطع. فاندفع عمر يكمل خطبته . قاعدة ''من أين لك هذا؟'' تُطبق في كثير من دول العالم بدءا من رأس الهرم نزولاً للمسؤولين في الحكومة، لا يأنف منها أحد، ولا يعتذر عنها أحد، وليست عيباً أو نقصاناً من قدر أحد. من أين لك هذا؟ سؤال مشروع من حق كل أحد أن يسأله، ويجب على مجلس الشورى وديوان المراقبة العامة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وحماية النزاهة أن توجهه لكل مسؤول. أخيراً أبدع شيخنا د.سلمان العودة حينما تحدث عن المساءلة في ''وسم'' على اليوتيوب بعنوان: ''من أين لك؟''. كما قرأت في الصحف عن مشروع تقدمت به الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وحماية النزاهة لتطبيق لائحة كشف الذمة المالية للمسؤولين الذين يتولون المناصب القيادية والمالية. معنى ذلك أن المسؤول يقدم قائمة بأملاكه المالية والمنقولة ومصادر الدخل وكل ما يملك، ويتم تقديم هذا الإقرار بشكل دوري كل ثلاث سنوات، كما يتم تقديمه عند نهاية الخدمة، وعادة ما تشمل تلك القائمة أسرته الأبناء والزوجة والوالدين. فوجئت بأن الهيئة تطبق هذه القاعدة على موظفيها من خلال إقرار كشف الذمة الذي أشرنا إليه أعلاه، وهي تجربة تستحق أن تُذكر، ومَنْقَبة تستحق أن تُشكر، فهم لا يتحدثون تنظيراً، وإنما تقريراً عملياً حيث بدأوا بأنفسهم بمبادرة ذاتية، ليأكدوا إمكانية تطبيقها على غيرهم. عند تطبيق لائحة الإفصاح عن كشف الذمة المالية لن تجد موظفاً ليس لديه إلا دخله من راتبه ويأتي كل يوم للوزارة بسيارة فاخرة مختلفة، ولن تجد مسؤولاً يُعين في منصبه وهو يسكن في بيت مؤجر وخلال سنوات معدودة يشتري قصراً بعشرات الملايين، ولن تجد كثيراً من حالات الثراء الفاحش السريع غير المبرر لدى مسؤولينا وتابعيهم. لا أجد ما يمنع من تطبيق كشف الذمة المالية ذاته على القطاع الخاص، خصوصا الشركات المساهمة المدرجة في السوق وتكون البداية بالشركات التي تسيطر عليها الحكومة مثل سابك والاتصالات، فما ينطبق على المسؤول الحكومي لا ينزه عنه موظفو القطاع الخاص. بالتأكيد هناك مسؤولون تطهر الأرض بأفعالهم ونزاهتهم، يعرفهم الله وأعرف بعضهم، وهم للأسف يُظلمون عند شمولهم بالوصف العام لبعض المؤسسات والإدارت بالفساد وعدم النزاهة. أتمنى أن يكون إقرار لائحة كشف الذمة وتطبيقها من أولى أولويات المقام السامي، فلها أهمية قصوى في كبح جماح الفساد، خصوصا مع تزايد الإنفاق، وشكوى المواطنين من تباطؤ التنفيذ، وقصور الأداء، وتناقص الجودة في الخدمات، والشكوى المتزايدة من أنواع الفساد المالي والإداري. من طرائف محاسبة المسؤولين، تجربة إحدى القرى الصغيرة في شمال إنجلترا، والتي كانت تقوم بإقامة مهرجان سنوي لمحاسبة رئيس المجلس البلدي للقرية، وأعضاء المجلس البلدي أيضا، أما كيف تتم المحاسبة فعن طريق الميزان؛ حيث يقام مهرجان المساءلة حول ميزان كبير، ويصعد رئيس المجلس ليتم وزنه، فإذا اتضح أن وزن رئيس المجلس قد زاد على يوم توليه المنصب زيادة غير عادية، فهذا يثبت أنه رجل لم يكن مخلصا في عمله؛ لأنه كان يخدم بطنه أكثر مما يستخدم عقله، ومعنى ذلك أنه لم يعط القرية ومشكلاتها الاهتمام اللازم، ويمكن التجاوز في حدود خمسة أرطال فقط، أما أكثر من هذا، فيتم عزل رئيس المجلس فورا، ثم يتم وزن باقي أعضاء المجلس واحدا واحدا وسط تصفيق جماهير القرية وضجيجهم. وبعيداً عن مساءلة البطون، وحتى يتم إقرار اللائحة، فإني بانتظار المسؤول الشجاع الذي سيعلن عن ذمته المالية للملأ على صفحات الصحف في بيان رسمي، عند تعيينه وبعد انتهاء مدته.
إنشرها