Author

أجندات وتصنيفات

|
عملت في مجال العلاقات العامة سنين طويلة. كانت أفضل الهدايا وأكثرها انتشاراً وقبولاً هي ''الأجندات''. الأجندة يمكن أن يستخدمها الشخص في مكان عمله. ويمكن أن يسافر بها لتكون حافظة ملاحظاته وأفكاره. يحملها معه عند حضور الاجتماعات لتكون ''سكرتيرا'' أثناء حركته خارج المكتب. يحتفظ الكثير من الأشخاص بمعلومات كثيرة في الأجندة. أعرف شخصاً كان يحتفظ بأجندات التقويم زمني، وكان يصنفها حسب العام. يستطيع البعض أن يسردوا لك التاريخ من خلال الأجندة. للأجندة أنواع كثيرة، لكن أفضلها تلك التي لا تحوجك لغيرها. تجد فيها أدوات الكتابة وأدوات الحساب والتاريخ ويمكن أن تجد كتيباً يحتوي على معلومات عن كل شيء كالمقاييس والأوزان والعواصم وفروق الوقت وخرائط دول العالم وأعلامها وتعدادها وطبيعتها...إلخ. كانت الأجندة الوطنية غير محبذة. المطابع التي تنفذ هذه الأجندات داخل المملكة يعمل فيها عادة أشخاص غير مبدعين. وهم يقتاتون على أجندات خارجية، يقومون بتغريتها وتركيبها كيفما اتفق، لبيعها للمؤسسات والشركات والجهات الحكومية. كانت الأجندات الغربية هي الأفضل، وكانت الرغبة في أجندات الشرق محدودة أو منتفية بسبب جودتها المتدنية. جاء الربيع العربي وأصبحت الأجندات تُوزع مجاناً، ولا تباع مثل كتب وزارة التربية والتعليم. كلما خرج واحد إلى الشارع، اتهم بأنه يحمل أجندة من نوع أو آخر. هذا له أجندة إسلامية وذاك أجندته ليبرالية وآخر علماني. الغريب أن الأجندات الغربية التي كان الطلب عليها عالياً في مجال العلاقات العامة أصبحت مرفوضة، بل أصبح حملها يمثل أكبر تهمة. تأتي الأجندة الشرقية في مرتبة أعلى من مرتبة الأجندة الغربية. على الأقل في نظر الأحزاب التقدمية والاشتراكية وعلى الرغم من أنها جميعاً من رحم الأجنبي. وعلى الرغم من أن الصين مثلاً تمارس دكتاتورية وصلت حجب الأطباق اللاقطة للأقمار الاصطناعية وبرامج التواصل الاجتماعي. فيا الله كيف تغيرت أوضاع الأجندات وتحولت أحوال حامليها من باحثين عنها إلى متبرئين منها بل ومتهمين للآخرين بحملها؟! حوِّر مصطلحان آخران هما ''التقدمية'' و''الرجعية ''. يعد الاشتراكيون اليوم من التقدميين، وينظرون إلى الرأسماليين على أنهم رجعيون. المشكل أن الواقع لا يسند هذا الادعاء. الدول أو النظريات الرجعية هي الأكثر تقدماً في الناحية المادية والعلمية وحقوق الإنسان. انظر - على سبيل المثال - إلى الدول المتهمة بالرجعية كدول مجلس التعاون الخليجي، وقارنها بالدول التقدمية التي كان على رأسها الجماهيرية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى أيام معمر. وسورية التي يحكمها بشار، وآخرين يدعون ''التقدمية''. يأتون إلى دول الخليج حيث العمل برواتب مغرية. الخدمات متوافرة كما هي في أحدث الحضارات، بينما في الدول التقدمية تجد أن الصرف الصحي ميزة الأحياء الراقية والمستشفى التخصصي لا يوجد إلا في العاصمة والجامعة ما زالت تقدم دروسها باللغة الروسية. دول تنافس أوروبا وأمريكا وتحقق من التقدم العلمي والمادي الكثير تسمى رجعية ودول تنافس السلحفاة بل وتسبقها السلحفاة المريضة تقدمية. عجبي! استخدم مجتمعنا كلمة ''مأجور'' للتعبير عن الأمل في أن يُؤجر مَنْ يفعل الخير. فعندما تزور المريض، فأنت تقول له مأجور، لأن المؤمن يُؤجر على كل ما أصابه حتى الشوكة يُشاكها كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وعندما تعزي في ميت، فإن بعض مجتمعاتنا يستخدم كلمة ''مأجور'' كدعاء بأن يقبل الله حضورك ويأجُرك عليه. تُستخدم الكلمة في حالات كثيرة كلها كانت تعني الخير وطلب الفوز والفلاح لفاعل الخير. قَلَب السياسيون معاني الكلمات فأصبحت الأقلام الفاسدة ''مأجورة''، وأكثر ما يتوافر هذه الأيام هو القنوات ''المأجورة'' التي أصبحت أكثر من الهمِّ على القلب. هذا التغيير في المفاهيم من طلب الأجر من رب الناس إلى طلب الأجر من الناس هو ما جعل الأول من الخيرة الأخير في الأرذلين. يتساءل الإنسان: ما هو سبب انقلاب المفاهيم، ومحاولات تغييب العقل الجمعي عن وقائع على الأرض؟ ليكتشف أن السبب هو السياسة. نعم هي السياسة والسياسيون الذين يسود بينهم الاعتقاد بأنهم أذكى من الآخرين، ويحق لهم ذلك ما داموا يسيطرون على المشهد ويحركون الأحداث والإعلام كيفما يشاؤون بحكم سيطرتهم الذهنية على المجتمعات. الأسوأ من هذا أن الكثير منهم يستخدمون الكذب وسيلة لتحقيق مآربهم، خصوصاً عندما يتبنون قضية خاسرة. يتحدث أحدهم بالأمس القريب فيقول إنه لا توجد معارضة سورية في سورية. الموجود هو القاعدة ومنظمات إرهابية، هكذا دون خجل ويستمر في الظهور على الشاشات وتستضيفه القنوات كنوع من الترفيه على المشاهدين. إذا فالعيب هو في المشاهد الذي يستمر في استقبال الرسائل دون تمحيص ورفض للكذب والكاذبين. ينطبق الخوف من العمالة وحمل الأجندات على كاتب أو سياسي أو ناشط يمثل شريحة تتحرك من الصفر إلى أن تحقق مستوى معينا من القبول لدى المشاهد والمجتمع بشكل عام، ثم يتخذ موقفاً خاطئاً يقتل مصداقيته، ولكنه لا يعتذر عن الخطأ، وإنما يستمر فيه عناداً وصلفاً وتسلية للمشاهد، حتى لا يتهمه أحد بحمل أجندة أجنبية أو بالإجارة للعدو.
إنشرها