Author

بين الفقر والإفقار

|
.. عذابات الفقراء ليست دائماً بسبب ظروف الحياة، بل بمؤسسات تدير مقدرات أي أمّة خطأ.. وإن كان سبب الفقر عندنا هو الأخير، فسنعاقب على خطيئتنا. عندنا فرح كبير، وعندنا مآسٍ كبيرة. نحن فرحون بالدفق النقدي الضخم الذي سال في خزينة الدولة هذا العام، فرحون أن الأموال تأتي لنا وبأكبر النسب التي عهدناها، بينما العالم بأكثره يحصد تهاوي أكبر مؤسساته ومصارفه، ويقوّض أُسس أركان أمنه وأمانه. فرحون أن مصارفنا ستتضخم ثرواتها هذا العام بما لا يقل عن 10 في المائة، بينما مصارف العالم الماردة في أقوى اقتصاديات الأرض تترنح لأن ضربة صاعقة وُجِّهَت إليها من تعاقب الخذلان الاقتصادي. ولا شك أننا محسودون على ما يفوق التريليون عدّاً ونقداً، وسيتطلع العالمُ إلينا، إما لقضية الحسد تلك أو ليمد يده بأي طريقة للمشاركة في الكنز الكبير.. ولكنْ هناك أيضاً عيون من الداخل كبيرة تتوجّه للميزانية من منتفعين، ومن متاجرين ومضاربين، ومن الذين يضيعون الثروات كما تلتهم الرمالُ غمرة المياة فلا تبقى ولا تُنمي شجرة. حقبتنا هذه لن تتكرر أبداً، إن لم نبنِ لحقبة ما قبل نضوب آلية الريوع.. ببناء قواعد الإنتاج والصناعة والتجارة التصديرية. ولكنْ هناك حزن كبير، وحاجة تلصق بعض الناس تقريباً بالأرض العارية، والسبب الفقر الذي ينخر بفئة عريضة من الناس، الذين يرون هطول الأمطار ولكن من سحابةٍ لا تأتيهم.. هنا، لا يكون الفقر الذي نرضى به بما قضى الله به بين الناس، ففي كل مكان فقراء ومكتفون وأغنياء.. ولكن تتكون متلازمة ظاهرة الإخفاق والخطأ والذنب عندما تكون هناك عملية إفقار للمجتمع، إن كان متعمداً فالمصيبة عظيمة، وإن كان غير متعمّد، فالمصيبة أعظمُ.. والحسابُ طبعاً في يوم الحساب الأكبر. تجد الإفقارَ أولاً في تجميد الأموال بقطاعات غير منتجة كسوق المال التي لا تنتج قاعدة عملية واسعة، ولا تفيض رزقاً للجميع، وتختصر الثروات عند العالمين بممرات السوق.. تتجمّد الأموال في أغرب تجارة عندنا عن بقية العالم، وهي الثراء الذي يتضخم أضعافاً فوق أي معدل منطقي لمعطّلي الترس الإنتاجي الأكبر حاجزي الأراضي ومتداوليها دون توظيف روح واحدة، ولا وضع نقطة زيت في محرّك الأمة الاقتصادي.. تضيع في الفساد المتعمّد الذي استشرى حتى اقتضى أن ننشئ سلطات عدة لمراقبته، وحتى الآن يقف الفسادُ ضاحكاً على الجميع بجبروته وتداخله في آخر عروق الجسد الاقتصادي والإجرائي والخدمي.. إنه في غياب الجدية في النفع العام، بجعل بلدنا من أرقى الدول للحياة البشرية على الإطلاق لو توافرت الجدّية، فما زالت مدارسُنا متعثرة يحرقها سلك وتتهالك جدارنها، وكأن علم الصيانة لم يصل لشواطئنا بعد، وما زالت المعلمات بالآلاف يُبعثن في بلد محافظ ويصرّ على المَحرَم وحراسة المرأة كالدرّة المكنونة لأقصى أقاصي القرى البعيدة ومع مَن؟ وبوسيلة وماذا؟ واحسبوا الأرواح التي أزهقت.. وستطل علينا تلك الأرواحُ واحدة واحدة في يوم الحق وستشهد علينا بالشكاء واللوم أمام الديّان.. وفي مستشفياتنا التي بعضها يصرف أكثر مما يلزم على أقل ما يلزم، ويصرف أقل ما يلزم على أكثر ما يلزم.. وبخناق كل شاب وشابة في الأمة الذين لن يمكنهم مهما كانت مداخيلهم بناء بيت، وأحياناً استئجار ما يليق، مكبلين معظمهم بأصفاد سلاسل الدَّيْن والقروض بلا حاسب ولا توجيه.. فقد سدَدْنا عنهم الآفاق، وضاقت مرافق العمل الحقيقي وقدمنا العمل التلفيقي.. وحرمناهم أن يكونوا روّاداً لأعمالهم، وصُناعاً لمستقبلهم ومستقبل الأمة. عندنا ثقوب سوداء.. كتلك البالوعات الكونية التي تبلع أي شيء مهما كبر، فلا يخرج منها شيء ولا ينتج منها شيء إنما غرق واندثار في ظلام ليس منه فكاك. يجب أن نخرج من هذه الدوامة، بل كان يجب أن نخرج من زمان.. كنا سنبني أجمل وأنهض أمة بالأرض ودون مبالغة لو أحسنّا إدارة ثرواتنا، كان بإمكاننا استقطاب أعظم الجامعات كاملة لدينا، كان بإمكاننا فتح معاهد ومعامل البحث في الطاقة والمياه والصحة، وكان بإمكاننا أن نبني عشرات المدن الصناعية ونطور الموانئ الصناعية والنقل البحري التجاري، ونحكم جزءاً من الدنيا. ولكن لا يمكن أن نعمل أو نزدهر عندما تكون بفضاء ثروتنا ثقوب سوداء، لا تبلع الثروات بالظلام فحسب، بل تبلع حتى الظلام. الخطوة الأولى للحل: ردمُ تلك الثقوب! ‏
إنشرها