Author

التنمية المستديمة.. الموازنة بين احتياجات الحاضر والمستقبل

|
التنمية هي عملية الانتقال من وضع إلى وضع أفضل من خلال استكشاف القدرات والإمكانات وتوجيهها نحو أهدافها الاستراتيجية. ويستخدم مصطلح التنمية للدلالة على أن هناك مساحة كبيرة وفارقا شاسعا بين الوضع الحالي والوضع المرغوب، لذا كان نعت الدول الأقل حظا اقتصاديا بالدول النامية، أي التي تسعى للتنمية واللحاق بركب الدول الأكثر تقدما صناعيا واقتصاديا واجتماعيا. من هنا فإن عملية التنمية في جوهرها تتطلب إحداث تغيير اقتصادي واجتماعي وثقافي. هذا التغير باتباع النهج الغربي في التنمية الاقتصادية لا يعني بالضرورة الأفضل حتى إن بدا في ظاهره أنه يدفع نحو التقدم الاقتصادي والعمراني. فنهج الدول الغربية يعتمد على نظام السوق الذي في جوهره يسعى إلى تعظيم الإنتاج عند أعلى حدوده يصل حد الاستنزاف دون مراعاة للتأثير السلبي في البيئة واستدامة الموارد الطبيعية من أجل الأجيال القادمة. وهكذا فإن التغيرات التقنية والحضرية التي تطرأ على العالم تقدم أنماطا سلوكية وأساليب للإنتاج والاستهلاك ونظما اجتماعية وثقافة جديدة ترتكز على استنزاف الموارد من جهة والإسراف في الإنفاق على السلع والخدمات الاستهلاكية بمعدلات كبيرة. وما يعزز هذا التوجه الإسرافي أن مؤشرات أداء الاقتصادات الوطنية ومعايير تقدمها تعتمد على معايير الإنتاجية ومستوى الدخل الوطني، حتى أصبح الدخل الوطني ومتوسط دخل الفرد ومستوى المعيشة أساسا في المقارنة بين مستويات الدول في ميزان التقدم والتخلف. والمقارنة لا تقتصر على الدول، لكن أيضا بين الأقاليم داخل الدولة الواحدة. هذا التركيزعلى التنمية الاقتصادية والاندفاع نحو تحفيز النمو الاقتصادي وتعظيم الإنتاج لم يكن مقتصرا على الدول المتقدمة، إنما حتى الدول النامية التي ترغب في اللحاق بركبها فقامت باستنساخ منهجها الاقتصادي، هذا النهج لم يكن دون تكلفة اجتماعية وبيئية حاليا، لكن الأدهى والأمر على حساب مستقبل الأجيال القادمة. من هنا كانت الدعوة والمطالبة بتطبيق مفهوم التنمية المستديمة في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. تنمية تتواصل من خلالها الأجيال بحيث يحفظ كل جيل استحقاقات الجيل الذي يليه. هذا البناء التراكمي للتنمية يتطلب الموازنة بين الحاضر والمستقبل، وبين الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. إلا أن تطبيق هذا التوازن مكلف سياسيا واقتصاديا، وتجد كثير من الدول نفسها في وضع حرج عاجزة عن ذلك. لذا على الرغم من عقد المؤتمرات الدولية والخروج باتفاقيات تحدد ما يجب عمله عالميا، إلا أنه لم يتم إحراز تقدم كبير في مسار تغيير نمط الإنتاج والاستهلاك كما نوعا وأسلوبا. وبدا أن التنافس الاقتصادي الدولي على أشده، ما يعني أن كل دولة تسعى لاقتطاع جزء من الكعكة الاقتصادية بغض النظر عما تحدثه من آثار سلبية في البيئة، والسبب وراء ذلك هو المشكلات الطارئة اجتماعيا والملحة اقتصاديا والحساسة سياسيا مثل البطالة والفقر والإسكان والتي تؤرق الكثير من الدول النامية وتهدد استقرارها وأمنها، هذا إضافة إلى ضعف العمل المؤسسي وغياب التخطيط الاستراتيجي ونقص الموارد الاقتصادية واستشراء الفساد الإداري، كل ذلك يدفع بالدول النامية إلى الاندفاع نحو تلبية احتياجات الحاضر كأولوية قصوى والتعامل معها من منطلق أنها أزمة لا تحتمل التأجيل حتى ولو على حساب الأجيال القادمة. وهكذا تستمر التنمية الاقتصادية في استنزاف الموارد واستخدامها بطريقة غير كفؤة تؤدي إلى المزيد من الطلب على الموارد الطبيعة ما يؤثر سلبا في البيئة واستدامتها. وما يعمق مشكلة العجز في تحقيق التنمية المستديمة تزايد عدد السكان والتلوث والنمو الحضري وتغير نمط الاستهلاك. لقد تنبه كثير من الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والهيئات الدولية لخطورة تردي الوضع البيئي وأهمية العمل على وضع حلول جذرية تأخذ في الحسبان الحفاظ على التوازن البيئي وصياغة سياسات تحقق تنمية مستديمة. لذا تتطلب التنمية المستديمة تغيير أسلوب ونهج إدارة المجتمع وحوكمته فهي لا تنشأ من فراغ، إنما تستلزم تدخل الحكومات وجميع مكونات المجتمع ليكون الهدف التحول من الأنشطة والسلوكيات والقرارات التي تؤثر سلبا في البيئة إلى أخرى ذات تأثير إيجابي. وتتفاوت الدول فيما بينها في تطبيقات التنمية المستديمة حسب طبيعة نظام الإدارة الحكومية وإمكاناتها البشرية والمالية والمادية وأسلوب صناعة القرار العام. لكن تبقى التنمية المستديمة تحديا حكوميا تتطلب في مجملها إصلاح المؤسسات الحكومية والممارسات الاجتماعية. إلا أن ما يجعل الأمر أسوأ في الدول النامية على وجه التحديد أن مؤسساتها العامة في معظمها لا تملك الخبرة والدراية وتتصف بسوء الإدارة إذا لم يكن فسادا إداريا. هذه المؤسسات البيروقراطية المثقلة بالروتين الورقي تقف عاجزة عن تحقيق أهداف التنمية، فضلا عن تنمية مستديمة. إن أحد أهم عوائق التنمية هو الاعتماد الكبير على التنظيمات البيروقراطية والمركزية الشديدة في نظام الإدارة العامة. فصياغة القرارات الحكومية تتم حسب الإجراءات الداخلية وبناء على معايير نمطية فنية إدارية ومالية صرفة دون الأخذ في الاعتبار المتغيرات البيئية والاحتياجات الفعلية للمواطنين وحق الأجيال القادمة. هذا التحوصل والتشرنق البيروقراطي جعل اهتمامات البيروقراطيين، وهم يحتكرون صناعة القرارات العامة، لا تتعدى اهتماماتهم بالموضوعات الآنية الروتينية باتجاه التضخيم البيروقراطي سواء في الميزانيات والموظفين والإجراءات دون ربط ذلك بالتأثيرات النهائية واحتواء المستجدات. كما أن المركزية الشديدة تحرم المجتمعات المحلية الاستقلالية في صياغة خططها التنموية حسب أولوياتها وتوظيف إمكاناتها وتطوير قدراتها. وهكذا تبتعد التنمية المحلية التي هي جذور التنمية الوطنية عن إحراز أي تقدم في تطبيق معايير التنمية المستديمة، ما ينعكس سلبا على استحققات الأجيال القادمة.
إنشرها