Author

منع تصدير السلع المدعومة .. لا ضرر ولا ضرار

|
لم تواجه الأمم تحدياً مثل نهم رجال الأعمال إلى تعظيم أرباحهم، وفي هذا فهم قادرون على استغلال كل الفرص المتاحة لهم من أجل ذلك، وقد استغلت الحكومات هذا النهم لتوجيه الاستثمارات نحو تلك الأكثر أهمية بالنسبة لمواطنيها، فمنحت المستثمرين مزايا ضريبية في قطاعات صناعية ومناطق جغرافية معينة، كما قدّمت الدعم لبعض الصناعات، إما لتشجيعها أو لتخفيض الأسعار على مواطنيها. لكن الاقتصاد لا يعرف الحالة المثالية، فما يحصل دائما أن رجال الأعمال يستغلون الدعم الذي تمنحه الدولة لصناعات معينة أو سلع محددة لتصديرها للخارج الذي لا يوجد فيه مثل هذا الدعم لتُباع السلع هناك بأعلى الأسعار بدلا من بيعها في الوطن، وهذا يحقق أرباحاً إضافية فوق ما يحصل عليه رجال الأعمال من وفورات الدعم. تتدخل الحكومات من أجل منع هذا الأسلوب الأعوج فتمنع تصدير السلع كلياً، ولكن هذا قد يخلق مشكلة السوق السوداء ومشكلات تهريب لا حصر لها، وخاصة إذا كانت الدول المستفيدة من التهريب قريبة جداً وهي تسهل ذلك لسد النقص الذي لديها من تلك السلع أو ليستفيد مواطنوها من الدعم الذي يقدم في الدولة الجارة. هنا تصبح قضية منع تصدير السلع المدعومة قضية أمنية أيضاً وتزداد الأمور تعقيداً. لحل هذه المشكلة الاقتصادية المعقدة التي تنهك ميزانيات الدول وتنهك أمنها الغذائي والحدودي أيضاً؛ فإن دول العالم تعمل مجتمعة من أجل خلق سوق عالمية حرة لا دعم فيها لأي سلعة، وفي المقابل يتم فتح الأسواق أمام جميع المستثمرين لتعزيز وصول السلع لجميع الأسواق بحرية وتعزيز المنافسة بين التجار ما يسهم في خفض الأسعار، لكن هذا الحل لم يجد تجاوباً واسعاً لا من الدول التي لم توقع على الاتفاقية الدولية ولا حتى من تلك الدول التي وقعت. تعمل بعض الدول بشكل منفرد لحل هذه المشكلة بأن تنقل الدعم من التاجر إلى المواطن مباشرة من خلال البطاقات التموينية، وهي عملية معقدة، والبعض الآخر يعمل على السماح بالتصدير ولكن بعد استرداد قيمة الدعم. لكن المشكلة أكثر تعقيدا من مجرد استرداد الدعم، فبعض السلع سهلة وتظهر فيها قيمة الدعم مباشرة، مثل الوقود بأنواعه وبعض السلع التموينية، مثل القمح والدقيق والشعير والأسمنت، ولكن هناك سلع يصعب تحديد قيمة الدعم، ذلك أنها استفادت منه بصورة غير مباشرة، فمثلاً هناك الكثير من المصانع تستفيد من دعم غير مباشر في تخفيض أسعار الوقود أو قيمة الأرض الرمزية التي قام عليها المصنع أو دعم في أجور العمال أو قيمة القمح والدقيق الداخل في التنصيع، وهذا كله سينعكس حتما على أسعار السلع التي تنتجها هذه المصانع، ما يمكنها من بيعها في الخارج بسعر تنافسي - أعلى من سعر السوق المحلية وأقل من السوق العالمية - بسبب الدعم الذي وجدته من الحكومة. من الصعب القول إن هذا التوجه الاقتصادي لهذه المصانع غير إيجابي والصعب القول إنه لا يخلو من المخاطر. فهو إيجابي من ناحية ضرورة دعم الصناعة المحلية في الأسواق العالمية، وهذا موجود في كل دول العالم ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، وغيرها كثير، فدعم الصناعة المحلية لكي تنافس في الأسواق العالمية شيء مرحب به طالما هذه المصانع قادرة على خلق تدفقات نقدية من العملات الأجنبية، كما أنها تخلق فرصاً وظيفية للمواطنين. الخطر الماثل في هذا الاتجاه هو عندما يجد رجال الأعمال أن الأسعار في الخارج أعلى بكثير من الأسعار في الداخل، وهنا يتم تجفيف السلعة في الداخل وتصديرها للخارج، وقد يستفيد رجال الأعمال أيضاً من تجفيف السوق الداخلية لترتفع الأسعار للمستوى العالمي ويتم تحقيق أرباح غير عادية من كلا السوقين ويفقد الدعم معناه تماماً ويصبح دُولة بين الأغنياء فقط، بينما يئن المواطن من شح السلع وارتفاع الأسعار رغم أن الدولة تدفع مبالغ طائلة من أجل دعم الأسعار وتهدئة الأسواق. هنا قد لا نلوم رجال الأعمال الذي يطلبون تعظيم أرباحهم فقط طالما هناك فرصة متاحة لهم، لكن نلوم السياسات الاقتصادية التي تسمح بمثل هذا. اقتصاد المملكة يواجه مشكلة وجود دول على حدوده تعاني شح السلع وارتفاع أسعارها بشكل كبير مع ضعف أو انعدام الدعم الحكومي هناك، ومع الدعم السخي الذي تدفعه حكومة المملكة لسلع عدة وللمصانع ورجال الأعمال، فإنه من الطبيعي أن نواجه مشكلة تصدير السلع المدعومة على حساب السوق المحلية. فحجم التصدير من منتجات الدقيق في السعودية إلى الأسواق المجاورة كبير جدا، كما أن استقصاء لـ ''الاقتصادية'' وصل لنتيجة وجود شركات غذائية تعتمد على الدقيق في صناعة منتجاتها وتستفيد من حجم الدعم الكبير الذي تقدمه الدولة لسلعة الدقيق، إلى جانب الدعم الآخر للمصانع من خلال الكهرباء وأصبحت تصدر لدول العالم لتستفيد من ميزة الدعم. وكما قلنا فإن هذا ليس سيئا بحد ذاته ما لم تعمد هذه المصانع والشركات إلى تجفيف السوق المحلية من هذه السلع أو تمنع المواطن السعودي من العمل فيها. من هنا فإن أي دراسة لتغيير سياسات المملكة الاقتصادية في تصدير السلع المدعومة من قِبَل الدولة ضرورية ومرحب بها إلى أبعد حد، ولكن أيضا يجب أن تتم بعناية خاصة.. فلا ضرر ولا ضرار.
إنشرها