Author

لو تركتني أقبّل جبينَك لصنت نفسَك من الغرور

|
تأملات الإثنين-5 - من أجمل فضائل أي إنسان التواضع، وقيل بالتواضع الأقوال منذ بدء تاريخ تسجيل الفضيلة الأخلاقية. وجدت البشرية أن الأكثر تواضعاً هم مَن أنتجوا أكثر، ونجحوا أكثر، وخدموا الناس أكثر؛ لأنهم أحبوا الناسَ أكثر. إن التواضعَ قيمة إنسانية لا يحصل عليها المرء بسهولة لتركيبة الإنسان الأخلاقية وفهمه السائد لها، وردود أفعالها، ولربطٍ دائمٍ بين التواضع والضِّعة، أو ضعف الشخصية، وشتان ما بينهما، إنهما ببعدهما معنىً وقيمة عن بعضهم كبعد بلوتو عن الشمس. إن أكبر رسالة في التواضع هي رسالة قليلاً ما نستطيع التقاطها، بأن مَن يتواضع لك يكبر قيمتك الإنسانية، ويحترم كينونتك، ويعرف تماماً أن لا ذرّة تختلف في تركيب جسدك عن تركيب الأباطرة والملوك، وأنك معجزة من معجزات الله الذي يتباهى بها، فكيف يمكن لإنسان يقدّر القيمة العليا ويدرك المغزى الخلْقي أن يتجرّأ على التكبّر على مَن أراد الله أن تقدر خلقه الملائكة أكبر تقدير، وما طـُرد إبليس الملاك من السماء إلا بسبب تقدير الله للإنسان، فصار ملاكُ السماء شيطاناً على الأرض. لما قال ''سبينوزا'' إن التكبّر أكبر أبناء إبليس، وأن الغرورَ ثاني أكبر أبنائه، ووصفهما كابنَيْن بارّين لوالدهما الشيطان فقد صبغ المعنى النهائي للقيمتين اللتين كثيرا ما تكونان من صفات أو تصنّع صفات الكثير من البشر. إن المغرورَ والمتكبر ترثي لحالهما كما ترثي لحال السجين، لأنهما لن يكونا على عفويتهما وحريتهما أبدا، فهما وضعا نفسَيهما باختيارهما في زنزانة محكمة ضيقة من العبودية لسيّدين ممجوجين هما الغرور والتيه بالنفس.. فتنطلق تصرفاتهما ليس وحياً وقراراً من ذاتهما، بل بما يمليه سَمْتُ التكبّر وزَهْو الغرور.. فيبعدون عن الناس، وهم يعتقدون أن الناسَ يُكـْبـِرونهما ويحترمونهما.. والحقيقة أمران لا ثالث لهما، إما أنهم يمقتونهما ويبعدون عنهما، أو ينافقونهما ويستفيدون منهما من خلال ضعفهم؛ لأن الغرورَ والكبرياء ضعف في الإنسان وفي عقله، وثقبان مفتوحان يمر منهما الطفيليون بأنواعهم. التعلـّق والأثر الذي يتركه الكبير قدراً والمتواضع سلوكاً يكون أثراً لا يُنسى وتأثيراً ملازماً بقية العمر لمَن صدف أن قابل أو تعامل مع أحد منهم.. وما كان ولعي وحبي وتواصلي مع شيخنا وأستاذ الأجيال ''عثمان الصالح'' رحمه الله، إلا بسبب أن رئيس عام الموانئ د. ''فايز بدر'' يرحمه الله، وكنت لتوي قد تخرجت في الجامعة وعملت بها، طلب مني مرافقة زيارة لشيخنا الفذ.. ورأيته متفاجئا ببساطته وببشاته، وأنا أكاد أن أسقط من رأسي لرؤية العلـَم الذي تدور شهرته البلاد.. أما ما جعلني أسيراً لعلمه وتواضعه وشخصه طيلة عمري، أني بعد حديث طويل معه، قام وقال لي: أستأذنك بشيء.. سأقبل جبينك؛ لأن برأسك حباًَ للعلم.. ولم أستطع رغم إصراره الحقيقي، ولما كتبت ذلك بجريدة ''اليوم'' أرسل لي رسالة بخطه الجميل ختمها بقوله مازحاً: ''حاذر أن يرتفع رأسُك على أي أحد.. كنت سأهبك شيئاً لا تنساه ولكنك رفضت.. الآن لا أستطيع أن أضمن لك أنك ستنشأ متواضعاً''. ما زالت الرسالة من أثمن مقتنياتي.. وما زلت أقبّل رؤوسَ الشباب.. وإن مانعوني! - في علم الفلك نعرف هذه الظاهرة أن المذنّب السائر في مفازات الكون العظيم له نواة (شكل نواة التمر)، وله ذيل من وراء النواة يجره، ويكون الذيل طويلاً متضاعفاً عن حجم المذنب.. والمذنب يتجه للشمس، ثم إن الشمس تبعده بضوئها الباهر فيتحرك الذيل ويتمايل بصخره وغازاته ولهبه مبتعداً عن الشمس، فالنواة تتوق، والذيل يزوغ.. والشمس تراقب ذلك وكأنها الحادبة الكونية على الكواكب والشهب.. هناك بشر كالشموس وهناك بشر كالشهب، مترابطون متباعدون، متقاربون محبة، ويتدافعون بعيداً بسبب المحبة.. مما يذكِّر بالمعلّمين الكبار. ''الحسن البصري'' المعلم الفقيه لما اعتزله أنبه تلامذته ''واصل بن عطاء''، لم يغضب، بل كان كالشمس عرف أن النواة العقلية موجودة برأس تلميذه ومطمئن أنه سقاها بعلمه ما يكفي، والعلم هنا بمنزلة الضوء الباهر، أبى كيانُ ''واصل'' إلا أن يتمايل مبتعداً؛ لأنه شُحن بطاقة حركية بذاته أقنعت نواته العقلية. ومن هنا نشأ أعظم تلاميذ الإسلام خذ ''ابن تيمية'' و''ابن القيّم'' مثالاً، و''ابن طفيل'' و''ابن رشد'' مثالاً آخر. راهناً صار قانون الستاتيكا أو البرود الحركي غالباً بالقضية التعليمية.. فالمعلمون فقدوا إبهارهم النوري، مما جعل تلاميذهم لا يلوون وجوههم لشيء ولا يستقلون بعقولهم من شيء، وهنا فقدنا أهم قيمة في أن يُخرِج كبارُ المعلمين كبارَ المعلمين.
إنشرها