Author

كي نتحاشى إمارات الطوائف

|
صرفت بعض الوقت هذا الأسبوع في قراءة مجلة ''البيان'' التي يصدرها تيار حركي محلي. وسررت لأن المجلة خصصت مساحة طيبة للكلام عن الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات. كما هو المتوقع، فقد عولجت هذه القضايا الكبرى من منظور ضيق الأفق نوعا ما، لكني ما زلت مسرورا لاهتمامهم بالموضوع. سررت لأني أرى أن جانبا مهما من أسباب الأزمة في مصر الشقيقة يكمن في إهمال الإسلاميين لمسألة ''الإجماع الوطني''. الإجماع في علم السياسة غير الإجماع المعروف في أصول الفقه. فهو يعالج مسألتين حيويتين: الأولى: اتفاق مجموع المواطنين، على فهم مشترك للعلاقة التي تجمعهم. الثانية: توافق المجتمع السياسي على طريقة موثقة لحل الخلافات وتعارضات الأفكار والمصالح فيما بينهم. كتب الإخوان المسلمون وغيرهم عشرات الكتب حول فضائل الحكم الإسلامي. وهي جميعا تفترض حكاما مؤمنين طيبين وشعبا مسلما مطيعا، مع قليل من غير المسلمين. هذه الكتب غرضها الإشادة بأخلاقيات الإسلام وليس البحث العلمي بالمعايير الأكاديمية. ولهذا فهي نادرا ما تناولت الإشكالات النظرية والعملية في علاقة المجتمع والدولة ومصادر التفارق بينهما. من قرأ تلك الأدبيات فسينتابه – بالتأكيد - قلق من سيطرة الإخوان أو نظرائهم على السلطة في حكومة شديدة المركزية مثل حكومة مصر. صحيح أنهم يتحدثون اليوم عن مبدأ المواطنة، وصحيح أنهم اختاروا مسيحيا ليكون نائبا لرئيس حزبهم، لكن هذا المبادرات المحدودة لا تكفي لإقناع المتشككين والقلقين. قدرة الإخوان على تعبئة الشارع، ثم انتصارهم الباهر في الانتخابات النيابية والرئاسية، أعطاهم حقا ثابتا في القانون. وكان عليهم الانتقال إلى المرحلة التالية، أي نزع رداء الحزب المنتصر والعمل كقائد لقطار يحمل الشعب كله، أنصارهم وأعداؤهم. الحزب المنتصر يبقى حزبا مهما كبر، وهو ليس الشعب كله ولا نصفه ولا ربعه، فلا يصح له استثناء الآخرين ولا سيما المهزومين. خطاب الإسلاميين يغفل بشكل واضح ''المواطنة'' كمبدأ جوهري في الدولة الحديثة، وهو يتعامل مع المخالفين باعتبارهم ''أقلية'' لا تستحق الانتباه. يتحدثون عن الأقليات الدينية والمذهبية والقومية والتيارات الحديثة اليسارية والليبرالية وأمثالها كنخب ثانوية أو فلول أو طابور خامس يخدم أجندات أجنبية، وغير ذلك من الأوصاف التي نسمعها هذه الأيام. هذا الفهم السقيم للمشهد السياسي يؤسس - بالضرورة - لحالة استقطاب سياسي واجتماعي بين الفريق السياسي الذي يرفع شعارات إسلامية وبين الفرقاء الآخرين. وأسوأ ما في هذه الحالة هو تحول الإسلام كمنظومة قيم سامية إلى موضوع للجدل والخلاف بين المسلمين أنفسهم. الإسلاميون، هنا وفي كل مكان، مطالبون بمراجعة الطروحات القديمة التي ما عادت نافعة، بل ربما كانت سدا يعيق تطور المجتمع والدولة. وأظن أن تقديم تصور صحيح وعصري لمبدأ المواطنة ومبدأ الإجماع الوطني هو أهم ما نحتاج إليه اليوم. أخشى أن يؤدي التخشب والإصرار على القديم إلى تحويل التيار الديني من داعية للدين إلى مجرد مجموعة حزبية مهمومة بالغلبة. ما لم تجر مراجعة معمقة، ولا سيما من جانب الحركيين، لمفهوم العلاقة بين شركاء الوطن، فإن وصول الإسلاميين إلى السلطة لن يكون مقدمة لتطبيق الشريعة، بل تمهيدا لتحويل الاستقطاب السياسي إلى انقسام اجتماعي – سياسي يعيد من جديد إمارات الطوائف.
إنشرها