Author

المسُبّهون على الأرض

|
"تأملاتُ الإثنين" ..التعلّمُ المستمِرّ، ليس هو كما تعورف عليه النهلُ المباشرُ من الكتب.. بل في الاكتسابِ التجريبي والحياتي بعد النهلِ من الكتب. ولن أقف لكم واعظاً أو مرشداً، فأنتم أرقى من أن يفعل ذلك لكم أحد، ولكن سنأخذ معاً قصصاً حقيقية في الحياة تنبئنا أن العقلَ المستنير إنما هو نتيجة قبول الظرف الجديد وعدم التيبس والعنادة وإقفال منافذ العقل بالضبّة والمفتاح. "صخرُ بن الشريد"، وربما لا تعرفونه ولو قلت لكم من هي أخته لشهقتم في اللحظة نفسها وقلتم: عرفناه، عرفناه! وهذا أيضا من جمائل التعلم المستمر؛ أن في كل يوم، بل كل لحظة ودقيقة معلومة جديدة. و"صخر" هذا هو أخو، ما غيرها، "الخنساء" التي أنشدتْ فيه أعظمَ مرثية في العالم- هاه، لم أقل هذا أنا، إنما قالها "ريلكه" الألماني، و"ريلكه" له قصة حكيتها لأحبابي على التويتر بموضوع "خفايا الفكر الغربي" وكيف أن عقله الباحث عن التعليم المستمر قاده لمصر، وهناك أحبّ "نعمة مختار" البنت المصرية الذي انتزع من حديقتها زهرةً ليقدمها لها، فوخزته شوكتها وتسببت في موته. المهم، أن صخراً خرج في غزوةٍ فقاتل فيها قتالاً ضارياً فطعن من جنبه وغار الجرحُ في جسده، فمرض وطال به رقاد المرض على الفراش.. جاء أحد أقربائه لعيادته، وسأل زوجته واسمها كان "سلمى" عن حاله، فردتْ بردٍّ يدلّ على مكابرةٍ وعنادٍ وعدم استيعابٍ لموقفٍ وظرفٍ مستجدّين: "لا حيّاً فيُرجى، ولا ميتاً فيُنسى" ولأنها لا تأبه لمعطيات الموقف فقد سمع صخرٌ ما قالته وحزّ جرحاً عميقاً آخر في قلبه.. ومن مقومات الحبِّ الجليل أن يستمرَّ التعلّم في اقتناء الحب في كل لحظةٍ استجدت وظرفٍ تغير. ولما سُئلت أمّ صخرٍ عنه أجابت: "أصبح بحمد الله صالحاً، ولا يزال بحمد الله بخير، ونحن بخير ما دام سواده – مثل ما نقول بلهجتنا زولته - بيننا". فقال صخرٌ شعراً - إيه طالع على أخته - ولا ننسى أن الشعرَ المبني على التعلم المستمر بالموقف واللحظة هو الشعر العذب المهضوم فكراً وعاطفة، قال فيه: أرى أمَّ صخرٍ ما تملّ عيادتي وملـَّت سُليمَى مضجعي ومكاني ولما أفاق من مرضه طلق سلمى، وهو ما حصلت عليه من تيبس الإدراك الذي يولد العنادَ والمكابرة، لأن صخراً قبل ذلك طلب منها الاعتذار فرفضت قائلة: "كلامٌ قلته غير معتذرةٍ إليه!". واشتهرت قبيلة بني عذرة بحبٍّ جامد لا يتزحزح ولا ينمو ويتقدم، إنه حب الهواء في الهواء.. فيه كثير من الرومانسية، وأعذب وأعف ألفاظ التعفف مع الحبيبة، ووضع هالات نورانية عليها كي تُرى فقط خيالا من ضوء وليس حقيقية من لحم ودم. ومن أشهر شعرائها الذين أضناهم العشق والصبابة هو "جميل بثينة"، واسمه الحقيقي "جميل بن معمر"، تولّع ببثينة فهو لا يمارس حياة طبيعية ويقضي جل وقته تغزلاً وتأوهاً وتضرعاً وتوجعاً ووصفاً خرافياً لها.. حتى أني حسبتُ أن اسم "بثينة" لا يُخلع إلا على فائقات الحسن! ومن فرط الهوى ولأن لا صفة أخرى يحملها، ولا اكتسب تعلماً قابلاً للتطور في الحب وتعلم مقتضيات الحياة، أُلصِق اسمُ "بثينة" به فصار يسمى جميل بثينة، عاش ومات ليس في عالمه إلا بثينة.. قولوا لي: كم فقد دماغ هذا الرجل؟ بل هل اكتسب في الحياة معلومات لدماغه غير عاطفة تغذيه ولا مزيد. صحيح اشتهر ولكن اشتهرَ بأنه الرجل الذي لم يفعل شيئاً في حياته سوى التغزل بامرأة. إننا لا بد أن نسير في كل جادّات الحياة ليس فقط بعيون مفتوحة، بل بعقول مفتوحة أيضاً، وفي اللهجة الخليجية وصف للشخص الذي يسير في طريق الحياة غافلاً عمّا حوله فيسمونه "مسبّهْ" وصفٌ دقيق لغياب اليقظة العقلية.. إنه انعزالٌ وانكفاءٌ داخلي. والعقلُ شديدُ الحساسية وأرقّ نسيجاً من بشرة وردة، يحتاج إلى التغذية الراجعة بمعلوماتٍ تتحول إلى نبضات إشعال كهربي وتواصل كيميائي عصبي يجعل العقلَ حرفيا يحتفل وينشط ويتزيّن. نحن لا نتعلم عندما ننال شهاداتنا، الشهادة تعطينا الآلية كي نتعلم، وهنا الفرق بين من يظن أن الشهادة هي المنتهى فيجمد عقله لعدم مجاراة الحدث والظرف المتغيرين. وأنصع مثالٍ في الطب. فإن الطبيبَ أو الجراح الماهر ليس فقط الذي يحفظ الكتب، بل الذي يتعلم من الحياة أي من ممارسته الميدانية، وفي العُرف الطبي لو أخذت أعلى شهادات الطب دون خبرةٍ ميدانيةٍ فلن يسلّموك مريضاً واحداً. إن التعلمَ المستمر هو سرُّ نجاح إنسان، وإخفاقِ آخر!
إنشرها