Author

اليانصيب الوهمي

|
أثناء قراءتي في كتاب ''لماذا تسقط الأمم''، Why the Nations Fail لفتت نظري هذه القصة الطريفة التي حدثت في كانون الثاني (يناير) 2000، حيث تم عمل سحب على يانصيب قومي في زيمبابوي بواسطة بنك حكومي هو بنك شركة زيمبابوي للصيرفةZimbabwe Banking Corporation، وكانت قيمة جائزة اليانصيب 100 ألف دولار زيمبابوي. كانت الحسابات المؤهلة لدخول السحب هي كل الحسابات التي رصيدها خمسة آلاف دولار زيمبابوي أو يزيد في كانون الأول (ديسمبر) 1999. أثناء إجراء السحب أعلن القائم على السحب عندما تسلم الورقة صاحبة اسم الحساب الفائز بأنه لا يكاد يصدق عينيه، لأن من فاز باليانصيب هو صاحب الفخامة السيد روبرت موجابي رئيس الدولة. تلك الفقرة ذكرتني بالعسكري رجب، الذي كان يلعب دوره إسماعيل ياسين في الفيلم المصري ''إسماعيل ياسين في الأسطول''، الذي كان يحتاج إلى 100 جنيه مصري كي يفك رهنية منزل حبيبته حتى يتزوج بها، ورغبة منهم في مساعدته اتفق من على ظهر السفينة على عمل سحب يانصيب وهمي يشترك فيه الجميع كل واحد بمبلغ جنيه واحد، على أن يتم السحب لمصلحة العسكري رجب. كانت فكرة ترسية السحب على العسكري رجب بسيطة، وهي أن تكون كل الأوراق التي سيتم سحب الفائز منها باسم العسكري رجب. لم يصدق العسكري رجب عينيه عندما فاز، وأخذ يقلب في الأوراق فاكتشف الحيلة التي قام بها أصدقاؤه لمساعدته في محنته. يبدو أن المسؤولين في بنك شركة زيمبابوي للصيرفة شاهدوا الفيلم المصري أو قرروا أن يفعلوا الشيء نفسه لمصلحة الزعيم الملهم روبرت موجابي، حيث ادعى القائم على سحب اليانصيب أن اسم موجابي تم سحبه من بين آلاف الأسماء المؤهلة لدخول السحب، بالطبع لو كنا في دولة تتبع مبادئ النزاهة والشفافية والحكم الرشيد وتراعي تأثير تضارب المصالح، فإن اسم فخامة الرئيس لم يكن من بين المؤهلين للجائزة. كانت الجائزة في ذلك الوقت تساوي تقريبا خمسة أضعاف الدخل السنوي للفرد في زيمبابوي. بالطبع لاحقا في عام 2009، لم يكن لهذه الجائزة أية قيمة على الإطلاق حيث لم تكن تكفي لشراء بيضة واحدة في التضخم الجامح الرهيب الذي عاشته زيمبابوي على يد موجابي، حيث بلغ سعر البيضة ثلاثة ملايين دولار زيمبابوي. لم يكن الرئيس بالطبع في حاجة إلى هذه الجائزة، فديكتاتور مثل موجابي لن يعدم الوسائل التي يؤمن بها الوضع المادي له ولأسرته لأجيال عدة قادمة. لكن القصة تكشف عن مدى السيطرة التي كان يمارسها الديكتاتور، وعن الجذور المترسخة للفساد في مؤسسات الدولة التي يحكمها. حينما يتولى شؤون الدولة رؤساء مثل موجابي الذي يحرص على أن يسير كل شؤون الدولة نحو كرسيه ونحو الصفوة ممن حوله، ليس من المتوقع لمثل هذه الدولة سوى أن تنهار إن آجلا أو عاجلا. لقد تولى روبرت موجابي ديكتاتور زيمبابوي الحكم في عام 1980، وفي عهده وعلى مدى ثلاثة عقود ركع اقتصاد زيمبابوي على ركبتيه، وتحول الشعب الزيمبابوي إلى واحد من أفقر شعوب العالم، وبعد أن كانت زيمبابوي دولة مصدرة للغذاء قبل ثورته المجيدة، تحولت على يديه إلى دولة يعتمد انتشار مرض سوء التغذية فيها على ما تتلقاه البلاد من معونات غذائية من الخارج، واضطر نحو نصف الشعب الزيمبابوي إلى الهجرة خارج البلاد هربا من الجحيم الذي وضعهم فيه موجابي. في عام 2008 سقطت الدولة تقريبا ولم تعد حتى قادرة على تقديم الخدمات العامة لسكانها، وبين 2008- 2009 أدى انهيار النظام الصحي في زيمبابوي إلى انتشار مرض الكوليرا (مرض الدول الفقيرة)، حيث أصيب بالمرض نحو 100 ألف شخص توفي منهم نحو خمسة آلاف شخص كان من الممكن إنقاذهم بسهولة لو أن النظام الصحي يعمل كما يجب، ما جعلها واحدة من أشد حالات الإصابة بالمرض في إفريقيا في السنوات الأخيرة. عندما سقطت الدولة، ونظم الإنتاج فيها لم يجد موجابي لاستمرار حصوله على الدعم الذي يريده لتأمين كرسيه من مخرج سوى طبع النقود وبكميات رهيبة، ما تسبب في حدوث ثاني أكبر تضخم جامح في العالم في عامي 2008 و2009، وبدءا من عام 2005، أخذ الدولار الزيمبابوي في الانهيار أمام الدولار الأمريكي. عندما تولى موجابي الحكم كان معدل الصرف بين عملة زيمبابوي والدولار الأمريكي 1 دولار زيمبابوي إلى 1.47 دولار أمريكي، بحلول تموز (يوليو) 2005 بلغ معدل صرف الدولار الأمريكي 17500 دولار زيمبابوي، وبعدها بعام 550 ألف دولار زيمبابوي وفي أتون التضخم الجامح في كانون الثاني (يناير) 2009 بلغ معدل صرف الدولار الأمريكي واحد تريليون (تريليون هو 1 أمامه 12 صفرا) دولار زيمبابوي. في ظل هذا التراجع الرهيب في قيمة العملة فإن الجمهور لا بد أن يبحث عن استخدام بديل للعملة الوطنية يكون أكثر استقرارا في الحفاظ على القوة الشرائية للدخول، حيث يصبح استخدام العملات الأجنبية أمرا حتميا، مثلما حدث في زيمبابوي، ففي كانون الثاني (يناير) 2009 أصبح استخدام العملات الأجنبية مثل الراند الجنوب إفريقي أو الدولار الأمريكي قانونيا، وهو ما يطلق عليه مصطلح الدولرة Dollarization الذي يعني بشكل عام إحلال العملات الأجنبية محل العملة الوطنية. مكنت الدولرة زيمبابوي من السيطرة على التضخم الجامح، الذي قدر معدله في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 بـ 79600000 في المائة شهريا، أو ما يعادل معدل 89 سكستيليون (سكستيليون هو واحد أمامه 21 صفرا) سنويا. من الطبيعي في ظل هذه الظروف أن تحتاج البلاد إلى عملات ورقية تحمل أرقاما فلكية، وهو ما حدث بالفعل، فقد كان آخر عملة ورقية أصدرتها زيمبابوي قبل إلغاء عملتها الوطنية تحمل الرقم 100 تريليون دولار. نتيجة للتضخم الجامح ووفقا لأفضل الإحصاءات المتاحة، بلغ دخل الفرد في زيمبابوي في 2008 نصف مستوى دخله تقريبا عندما قامت الثورة على يد الزعيم الملهم في 1980، وكان هناك نحو 80 في المائة من السكان تحت خط الفقر، الذي بلغ في عام 2008 نحو 13 تريليون دولار شهريا. في عام 1990 قام موجابي بفرض عمليات الإصلاح الزراعي من خلال إعادة توزيع الأراضي من ملاكها البيض على المزارعين السود، في محاولة لتحقيق نوع من العدالة في توزيع الثروة الوطنية، غاية قد تبدو نبيلة لكن التطبيق العملي غالبا ما يؤدي إلى آثار كارثية، فقد تم تسليم الأراضي لملاك ليس لهم خبرة بالزراعة، فكانت النتيجة أن انهارت الزراعة في زيمبابوي. أدى تقسيم المزارع التجارية في زيمبابوي، إلى التأثير بصورة جوهرية في الإنتاج الزراعي، فقبل عام 2000 كان الإنتاج الزراعي في زيمبابوي يتم بصورة حديثة، على سبيل المثال كانت زيمبابوي سادس أكبر منتج للدخان في العالم، وأحد المنتجين الأساسيين للطعام في المنطقة. بعد ما يسمى بالإصلاح الزراعي في زيمبابوي تراجع الإنتاج الزراعي بصورة كبيرة، وهو ما ترتب عليه انتشار المجاعة وسوء التغذية، بعد أن كان يطلق على زيمبابوي سلة الخبز في جنوب إفريقيا، وأصبح أكثر من نصف السكان يعانون سوء التغذية. من ناحية أخرى فإنه في عام 2009، ووفقا لإحصاءات الأمم المتحدة، بلغ معدل البطالة في زيمبابوي 94 في المائة، أي أنه من بين كل 100 من قوة العمل هناك ستة عمال فقط يعملون، والباقي يبحثون عن عمل ولا يجدونه، لم تقع عيني على مصدر يتحدث أنه في التاريخ تم تسجيل مثل هذه المعدلات الرهيبة للبطالة. إنها القصة نفسها التي تتكرر مع كل ديكتاتور يدفع به القدر إلى كرسي الحكم في الدول المنكوبة بأمثال روبرت موجابي، حيث يحرص النظام على منع أي محاولة للتقدم يمكن أن تهدد كرسي الحاكم أو الصفوة التي تلتف حوله، ويعمل على تشجيع أي أعمال تلفت انتباه الناس عنه أو عن الصفوة التي تلتف حوله، حتى إن تطلب ذلك إشعال حرب داخلية أو مع الآخرين. قصة موجابي تتكرر في كل الدول النامية ذات الحكم الديكتاتوري، بصورة أو بأخرى، حيث يسخر الديكتاتور موارد الدولة من أجل استمرار البقاء على كرسيه ولمصلحة الصفوة من حوله، والتجربة التاريخية تثبت أن أمثال موجابي يمكن أن يتسببوا في سقوط أمة بأكملها، وإن اختلفت التفاصيل من حالة إلى أخرى، فأخيرا بشكل أو آخر سقطت تونس ومصر وليبيا، وسورية في الطريق للسبب نفسه.
إنشرها