Author

الغرب والأخلاق والدين

|
أستاذ جامعي ـ السويد
تأتي الأخلاق في مقدمة ما يجب أن يكون عليه التصرف الإنساني السليم في الغرب. والفلسفة تعنى بشؤون الأخلاق كثيرا، وإن أردنا تفسير المفهوم الفلسفي والإنساني للأخلاق نستطيع اختصاره في كلمتين: "العلاقة مع الآخر"، والآخر هنا هو الإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه وطائفته ومذهبه. والدول الغربية بنت مجتمعات راقية صار للأخلاق فيها شأن كبير ومؤثر. والنمط الخلقي الذي سارت عليه في سعيها لبناء مجتمعات مدنية حضارية علمانية أخذ يسمو في أغلب مناحيه على نموذج الأخلاق الإنسانية، الذي اتبعته وما زالت تتبعه المؤسسة الكنسية المسيحية، الأمر الذي أدى إلى تعارض وتصادم بين ما تبغيه الكنيسة وما تبغيه النظم العلمانية. الدساتير والقوانين وأنماط الأخلاق التي قدمتها هذه النظم جعلت أخلاقية المؤسسة الكنسية تبدو متخلفة، تتعارض مع التطور الإنساني حضاريا ومدنيا وعلميا وتقنيا. وهكذا صار الناس في واد وصارت المؤسسة الكنسية في واد آخر، وأخذت الناس تبتعد رويدا رويدا عن كل ما يمت بصلة إلى المؤسسة الكنسية. ففي مجتمع مثل السويد الذي تحكمه أنماط من الأخلاق الإنسانية السامية تبدو المؤسسة الكنسية في نظر أغلبية السكان عاملا معرقلا للنهضة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، رغم أن الكنيسة اللوثرية السويدية ــــ وبخلاف الكنائس المتزمتة الأخرى ــــ قد حاولت جهدها اللحاق بالأخلاق المدنية، حيث تسمح بزواج رجال الدين وتمارس أنماطا من الأخلاق تقترب كثيرا مما يمارسه المجتمع بصورة عامة مثل السماح للنساء بدخول سلك الكهنوت بجميع درجاته وعدم معارضته، لا بل ممارسة ما تراه بعض الكنائس أمرا مشينا مثل استخدام موانع الحمل واتباع شفافية كبيرة في المسائل المالية وإقحام الكنيسة بشكل قوي في النشاطات الخيرية، وغيرها من الأمور. والصيغة الخلقية المدنية البعيدة عن الصيغة الخلقية للمؤسسة الكنسية جعلت المؤسسة السويدية المدنية تقدم على أمور ترقى إلى مستوى الكفر في نظر المؤسسة الكنسية، حيث ترفض أن يكون للدين (الكنيسة) بكل تبعاته مقدار خردلة في توجيه بوصلة الحياة في البلد. ومع تجاهلها للدين استطاع نظام الحكم تقديم معايير أخلاقية إنسانية تسمو كثيرا على ما تستطيع الكنيسة تقديمه. وهرع الناس صوب النظام الأخلاقي المدني والعلماني تاركين المؤسسة الكنسية وراءهم وهم اليوم يرون فيها سببا لما لحقهم من تخلف في الماضي، وإن ذكرنا المؤسسة الكنسية أمام جمع من الطلبة السويديين أداروا ظهورهم، وقد يرانا بعضهم متخلفين عقليا. وفي محاضرة عامة جمعت أكثر من 200 طالب سويدي، رفض أي منهم أن تكون له أي علاقة أو حتى احترام لنبي المسيحية أو أي نبي أو دين آخر. هذه ردة فعل طبيعية عندما تتحول أفكار لا بل رسالات سماوية إلى مؤسسات يقودها بشر ويجعلون فيها أنفسهم وكلاء لله في الأرض ويضعون تفاسيرهم للنصوص السماوية فوق أهمية النص السماوي ذاته، ويسبغون على أنفسهم أو من يختارونه صبغة القداسة والألوهية. والردة كانت من الشدة بمكان، حيث يرفض اليوم كثير من الفلاسفة الكبار ربط الأخلاق بالدين ـــ بمعنى آخر السلوك القويم هو ما يقبله الضمير الإنساني الحي، وليس ما تقرره المؤسسة الدينية بناء على تفسيرها الخاص للنص، الذي يستند في غالب الأمر على مصالحها المؤسساتية. هؤلاء الفلاسفة ومنهم الفيلسوف الفرنسي الشهير ليفيناس، يدرس اليوم الطلبة الغربيون كتبهم ومناهجهم وأبحاثهم عن كيف يجب أن تكون عليه الأخلاق الإنسانية وكيف يجب أن تتصرف المجتمعات المدنية الحديثة وليس الكتب والمناهج التي لدى المؤسسة الكنسية التي صار يعلوها الغبار. والسبب واضح. بقدر تعلق الأمر بهذه المجتمعات فإن مؤسسات الحكم فيها هي تحت المجهر أغلب الوقت، فعليها أن تبرهن أنها تمارس الأخلاق المدنية والإنسانية بأرقى صيغها. المؤسسة الدينية تخشى المجهر وتعتمد على السرية والفئوية والمخاصصة والمذهبية في تصرفاتها المؤسساتية، وآخر ما تخشاه هو كشفها، وتنسى أنه ليس من مستور إلا وظهر.
إنشرها