Author

ليلة ماتورانا (1)

|
تأسرني شخصية الرجل الهادئ في حديثه، حين تنساب كلماته بثقة وسلاسة مكونة جملا بديعة تقدم فكرته بوضوح. هكذا كان المدرب فرانشيسكو ماتورانا الذي جمعتني به جلسة عشاء، وصفها الزميل عبد الله الدرويش بالمحاضرة القيمة عن كرة القدم. بعد دقائق من وصوله، سألني بصوته المريح: من هو أفضل لاعب سعودي حاليا في رأيك؟ قلت له: ربما سعود كريري يستحق اللقب الآن رغم تقدمه في العمر. قال: كم عمره؟ أجبت: في الثانية والثلاثين. رفع حاجبيه ما سمح بتكون أخاديد صغيرة في جبينه وقال: في عنفوان مجده الرياضي، هذه أفضل مرحلة تجتمع فيها خلاصة التجربة الرياضية مع المهارة فتكون مزيجا رائعا. لم أشأ تفويت الفرصة التي تركها ماتورانا خلف سؤاله، فأعدته إليه مرة أخرى. تنفس بعمق وارتسمت ابتسامة خجولة على ثغره، وانطلق: حين تجيب على هذا السؤال فأنت تفصح عن ذائقتك الرياضية، طريقة وأساليب اللاعبين مختلفة، هناك لاعب يوافق ذائقتك وتحبه، كأنه أغنية تتغلغل إلى دواخلك فتتمايل معها. بعضهم يحب الحماسي، وآخرون يعشقون اللاعب المهاري صاحب اللمسة الخاصة، الذي يعاملها برقة كأنه يداعبها، يلامسها بغزل. هذا اللاعب بالنسبة لي هو محمد السهلاوي. لاحظ العجوز الخبير حجم المفاجأة على وجهي، فأكمل: السهلاوي يسجل في كل الأوضاع، بالرأس، بالقدمين، من كرة سريعة، وخاطفة، يجيد التحرك بالكرة ومن دونها.. قاطعته: بنيته الجسدية ضعيفة يا كابتن تخذله في الالتحامات القوية. هز رأسه.. وتابع: هذا صحيح، والسبب أنه لم يتلق تمرينات تأسيسية حقيقية في الفئات السنية، وعندما لاحظت هذا وضعت له برنامجا صباحيا لتقويته. الآن رحلت عن النصر ولا أعرف هل سيكمل أم لا. قاطعته من جديد: ولكنه بطيء خاصة خارج الصندوق؟ ابتسم، واستمر يشرح مستعينا بزجاجات على الطاولة: في فريق كرة القدم نهتم نحن المدربين بتكوين مزيج من اللاعبين، فيهم السريع والبطيء، والمهاري، وصاحب المجهود،، لا يمكن أن يكون فريقك كله سريعا أو بطيئا. جميل أن يكون لديك شيء من كل شيء، السهلاوي كان قلب النصر بالنسبة لي، عندما تمر الكرة من قدمه إلى زميله أشعر بالارتياح، كان يمتعني جدا، إنه يشبه سامي الجابر كثيرا عندما كنت أدرب الهلال. في ليلة ماتورانا الرجل الستيني الوقور، شعرت بأني أتعرف على تفاصيل جديدة في كرة القدم لم أكن أعرفها. حاولت استثمار كل دقيقة في الحوار لأتعلم شيئا جديدا من رجل قضى عمره كله في الكرة، قلت له: في مونديال 1994 كنت مرشحا للبطولة مع منتخب بلادك ماذا حدث؟ تنفس بعمق وزفر، ما أشعرني بأني قلبت المواجع، نظر إلى السقف كأنه يقرأ منه، ثم قال: في ذلك العام جهزت أفضل فريق في تاريخ كولومبيا، هزمت الأرجنتين ومارادونا بالخمسة في بوينس آيرس وتعادلت وفزت على البرازيل. كنت أشعر أني قريب من الحلم، ابتسم وواصل: وهزمتكم في جدة بخمسة ما أسهم في إلغاء عقد ليوبنهاكر. ضحك ورأيت أسنانه للمرة الأولى وهو يمد يده مصافحا وقال: لا بد أن تقدم لي الشكر الآن لقد أنقذتكم قبل المونديال، غيرتم المدرب ووصلتم للدور الثاني. تابع ذكرياته: قبل المونديال ذهبت لأخذ المشورة من أصدقائي، أريجو ساكي، بكنباور، سيزار مينوتي، زاجالو، سألتهم سؤالا واحدا: ماذا ينقصني قبل المونديال؟ أو بطريقة أخرى، ما الذي يجب علي فعله الآن؟ كلهم قالوا لي: ينقصك التاريخ؟ .. وأكمل: استفزتني إجاباتهم، وقلت لنفسي بغرور: ماذا يقصدون؟ أنا صنعت واحدا من أفضل خمسة منتخبات تلعب كرة قدم آنذاك في العالم، ماذا يقصدون بالتاريخ؟ ويتابع بحماسة: ذهبت إلى صديقي بكنباور وقلت له: ماذا يقصدون بالتاريخ؟ قال لي هذا الألماني الذكي: أن يكون لديك فريق بتاريخ في المونديال، يعني أن يقدم لاعبوك 120 في المائة من العطاء عندما يتأخرون في مباراة مونديالية، حِملُ التاريخ – والحديث لبيكنباور- على أكتافهم يجعل مسؤولياتهم تتضاعف في تلك اللحظة. تابع ضيفي العجوز الكولومبي: أجيال البرازيل المتتالية شاهدت منتخب بلادها يحمل كأس العالم وتابعت كيف كتبت الأجيال تاريخ بلادهم في عملية متوارثة حتى من ولدوا بعد ذلك يستشعرون مسؤولية تاريخ كتبه غيرهم، كذلك الإيطاليون والألمان والأرجنتينيون، في ذلك العام كان نجمنا فالديراما لم يشاهد أي كولومبي من قبل يلعب موندياليا، لم يكن لدينا تاريخ فخسرنا. واستشهد: هولندا كانت تلعب أفضل في أكثر من مونديال لكن التاريخ خذلها، الوحيد الذي كسر هذه القاعدة هو منتخب إسبانيا. قلت: وفرنسا، هز رأسه متجاهلا ثم ختم محاضرته القيمة: كرة القدم لعبة معقدة تعتمد على مؤثرات كثيرة داخل الميدان وخارجه. ماتورانا كان ماتعا للغاية وهو يتحدث. يوم الثلاثاء، سأخبركم عن ليلة هلالية ساخنة وليلة النصر المشتعلة قبل نهائي كأس الملك أمام الأهلي الموسم الماضي، وعن رأيه في رايكارد، وأشياء أخرى.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها