Author

حين يعرج المجتمع.. يشي بعمى الفكر

|
أحسب أن طبيعة سير العقل في فهم الوقائع تفضي إلى نتائج متعددة، وأحسب أن التعبير عن هذا الاختلاف هو مما ينتهي إلى الحكمة في الحكم. ضرب الرأي بالرأي المقابل له تمحيصا له، ومراجعة لسببه المستند إليه ونقدا للنتائج، وهذا ينتهي بالضرورة إلى الكمال في الاستخلاص والنتيجة وصواب الحكم على كل موضوع. الفلسفة تجعل الحكم على الموضوع لا يزيد على زاوية واحدة منه، هي تلك الزاوية التي يقف عندها المتكلم.. أما الشمولية في الحكم فهي تقتضي ــــ الإحاطة ــــ والرؤية من الأبعاد الأربعة، ومن الزوايا المختلفة! وبتجرد مطلق تام غير منقوص.. وذاك ينتهي بنا إلى ''حكم الله المحيط'' بكل شيء وبكل كبيرة وصغيرة، وكل ظاهر وباطنه، وكل باطن وظاهره. وبهذا يكون ـــ حكم المخلوق ــــ فرضا، وشكا، واحتمالا.. وحكم الله هو القطع واليقين والحقيقة التامة. لذا.. من يرغب أن يجعلنا في السعودية.. هذا البلد الهائل في التأثير والحضور العالمي والإسلامي والعربي. وكأننا علب ''مياه غازية'' نسخ مكررة في كل القناعات الفكرية! ويوصف من حمل رأيا مختلفا وجاهر به بصفات المروق وطمس الفطرة والضلال والزيغ وغيرها من صفات النبذ.. يجعلنا خارج المجتمع الطبيعي! خارج الرشد العقلي والمجتمعي. بل خارج بشريتنا. المجتمع الذي لا تتناقض فيه الآراء ولا تتصارع في داخله الرؤى والأفكار.. هو مجتمع شاذ وخارج عن الفطرة.. أو هو في قمع سياسي مستبد، وأن الاستبداد فيه لا يسمح بظهور التعدد ولا بالتصريح بالاختلاف بالوصول إلى السطح والظاهر والبوح به. والحالان باطلان.. فلا المجتمع مصاب بالكساح الفكري، ولا هو مريض بالسفه، أو التسطح إلى حد تبني فكرة واحدة لكل شيء وحكم واحد على كل قضية، وتبني حس موحد لكل لون من ألوان الجمال. كما أننا ـــ بحمد الله وفضله ـــ لسنا في دولة مستبدة تحبس أنفاس العباد في جوفهم. العالم المتحضر يقيس الرشد الاجتماعي.. وحرية التعبير.. والبيئة السياسية السليمة من خلال.. مساحة الخلاف والاختلاف وظهورهما للسطح! وهذا يمثل عصمة للمجتمع من الانحباس والانفجار المفاجئ الذي يمثل ضغطا تراكميا غير مرئي ولا منظور بالضرورة. كما أن مقدار التطرف والقسوة والعنف في الخلاف والاختلاف والعجز عن تقبل الرأي المختلف والمتناقض دائما يُنظر إليه كمؤشر مباشر على غياب الحرية في مكان ما، من مكونات المجتمع، أو الدولة وهيئاتها، أحدهما مريض بالاستبداد أو كلاهما بقدر متفاوت. القمع يأخذ صورة النبذ. أو صورة تكتل جمعي بالرفض وإعلان الكراهية. ''هشتاق''. ينتهي غالبه بإذلال المختلف في شخصه.. والهجوم على كرامته الإنسانية، والسعي لتدمير قيمته المعنوية، والعجز الظاهر عن الاحترام والتقبل للآخر المختلف، والفشل في محبة من يعارض أفكارنا بأخرى تضادها وتعاندها وتعاكس حركة سيرها! وبهذا يصبح التعدد الفكري.. والتعدد في الحكم يصبح عمليا ممنوعا ومصادر ومعاقبا عليه! بقوة الحروب النفسية التي تتمثل في الإذلال النفسي، والنبذ لمن لا يتفق مع المجموع ولمن لا يسير خلف خطوات القطيع خطوة بخطوة.. أو التخويف الأمني وخلق رهبة عقوبة متخيلة، أو قطيعة اجتماعية محتملة، خاصة لمن يقتات وجوده على جمهوره! والتخوين في الانتماء السياسي وقصص الخارج والانتماء إليه. وتلك قصة لها صلة بمحاكمة النيات، والرجم بالغيب، أكثر من الرشد في تمييز الرأي ونقضه، بالسبب والعلة العلمية والعقلية والقدرة على تكوين مفهوم ناضج للتعدد في وحدة وطن. أو وطن متعدد في وحدة. أخطر المنزلقات لكل مجتمع هي تسطيح وعيه.. تسطيح آماله.. وتسطيح حاضره.. حين ذاك لن يهتدي السبيل إلى مستقبله، لن يبصر طريقه، ولن يتذكر قليلا من كثير ماضيه، وكل الخيبات الموجعة فيه، وكل الرجاءات التي تحققت، والأحلام التي تماثلت حقيقة وحاضرا معاشا وقصة رغد بالوعي، وببقية من إثارة علم، وإرادة عنيدة في نيل ما تشتهي وما تختار! المملكة اليوم بشعبها وفي حراكها الفكري الثقافي السياسي، وعلى هذا القدر الساخط المتصادم المتصالح، الملتقي المختلف، المتقابل، المتناقض، المتقارب المتباعد، التكفيري والليبرالي. التطرف في أقصى اليسار وأقصى اليمين. الشمال والجنوب حين يجذبان أطراف الحبل، وحين يتجاذبان. هذا كله، من أفعال العقل، ورشد مقدمات الحكمة، ومقدمات ''وعي التنوع'' وقبول ''المختلف'' ثم حبه والإيمان به، والرهان عليه.. شريكا إنسانيا في الروح الإنسانية الجامعة، ثم في الله وأصول الشريعة وثوابتها، وبعد الوطن شجره، وترابه، ملح بحره، وعذوبة عيونه، ولياليه التي خلت، حاملة أطهر النيات في أطهر القلوب. لجيل أصر على أن يكون طاهرا نقيا من أحمال الغل، وأثقال الكراهية قبل أن تطويه الأرض. فكانت قصة التعدد في وحدة وطن. والتسامح والحب في قبول المختلف..
إنشرها