Author

فشل التجارب التنموية .. والاستعارات العشوائية

|
في عالمنا الثالثي تجارب اقتصادية آل أكثرها للفشل والتدهور في الأداء الاقتصادي وعدم تحقيق النمو، لأسباب عديدة منها ما هو سياسي، حيث يسيطر ذهن عسكري على مفاصل السياسة الاقتصادية أو تورط البلد في قيادة حزبية أيديولوجية شعارية أو حكم أقلية أو حتى نخبة عاجية المقام بتصور خارج الواقع وفوق الحقائق. وإذا كانت بلدان مثل ماليزيا والهند والصين والبرازيل، أو ما أصبح يعرف بدول الاقتصادات الناشئة ومجموعة الآسيان، قد حققت اختراقاتها في صناعة التنمية وإحداث تطور اقتصادي بأداء أصبح معدله يتنامى من مستوى الاكتفاء إلى مستوى المنافسة حتى باتت تجارب هذه الدول مثار الإعجاب ومحل دراسة من قبل حتى الاقتصادات الغربية، إلا أن الغالبية من دول العالم الثالث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ما زالت غاطسة في خراب تنموي يستنزف الموارد في غير طائل، ويهدرها في غير صالح مواطنيها لتبقى من ناحية رهينة فساد سلطاتها ومن ناحية أخرى رهينة لنهب شركات خارجية وفي الوقت ذاته، أسيرة سلع وبضائع واردة إليها تدفع ثمنها كيفما اتفق، سواء من خلال القروض والديون لتبقى مأسورة بها، إما بالاتكال على توصيات صندوق النقد الدولي حينا أو سياسات البنك الدولي حينا آخر، ما يجعلها غير قادرة على تجاوز ارتكاسها في تبدد ثرواتها الطبيعية وتدهور طاقاتها البشرية وإدمانها للواردات الخارجية.. وكله ناجم عن أن العشوائية في استنساخ النموذج الاقتصادي هو السمة الغالبة لأن هذا الاستنساخ يكتفي من النموذج الاقتصادي بالاستعارة المؤسسية، أي تقليد مؤسسات اقتصادية ناجحة مع التهجين باجتهاد ارتجالي غير مبني على معرفة بالثقافة الاقتصادية والإدارية، وبالتالي تصبح الاستعارة المؤسسية آلية مشوهة تمارس دورا تخريبيا وتدميريا في قطاعات الاقتصاد بدلا من أن تؤدي إلى حفزها واستنهاضها بفاعلية وأداء إيجابي. إنه ليس من المضمون أن إنشاء هيئة أو مؤسسة أو حتى وزارة على غرار مثيلها الناجح في بلد متقدم، أن يصبح التقدم ممكن الحدوث على نحو ما حدث هناك، فالهياكل أو المؤسسات الاقتصادية لا تعمل من تلقاء ذاتها.. فهي ما لم تكن مصونة بشروطها العلمية والإدارية والمهارية وصلاحياتها ووضوح مهامها وأهدافها، فسوف تتميع إجراءات العمل فيها وتصبح مقودة بالفوضى أو بأهواء المزاج، وبالتالي تفشل الاستعارة المؤسسية العشوائية في خدمة التنمية ويخسر معها الوطن اقتصاده مهما بدا من وجود شكلي لهياكل ظاهرها حديث لكن باطنها غير قادر على أن ينضبط مع الحداثة وبقدر ما يتجاوزها بالقفز فوقها وبتعطيلها أو بتحريفها. إن الفشل في التجارب التنموية في العالم الثالث على مدى أكثر من قرن، كان وما زال متورطا في هذه الاستعارات العشوائية أو المشوشة للمؤسسات حتى مع كون بعض تلك البلدان لم تكن ترزح تحت نزاعات سياسية أو عنصرية أو استعمارية، فالتخبط في تهجين الاستعارات المؤسسية على الهوى والمزاج يتكفل بجلب الخراب التنموي، ما قد يستدعي موجات السخط والفوضى الاجتماعية، كما حدث في بعض بلدان الربيع العربي، وكما هو الحال في دول إفريقية ومنها السودان وأخرى آسيوية كإيران. إن بلورة المؤسسات الاقتصادية وفق نماذج معينة وبآليات مبتكرة، هي من معطيات الخبرة الإنسانية الحديثة التي لا يمكن الاستغناء عنها باستعارتها كنماذج لتؤدي وظائفها كما تم تحديدها.. بل إن الاحتذاء بهذه النماذج يوفر مالا وجهدا ووقتا لأي بلد ينجح في صدقية هذه الاستعارة شكلا ومضمونا، ما يدفع بالتجربة التنموية واقتصاد البلد لمزيد من النمو.. وحتما العكس صحيح.. ولذلك نجحت دول الاقتصادات الناشئة ومجموعة الآسيان وما زالت دول في العالم الثالث تتخبط في خراب تنموي هو في أساسه نتاج سوء استعارتها للمؤسسة الاقتصادية والمغالطة في الاستنساخ والإمعان في تشويهه شكلاً وموضوعا!
إنشرها