Author

حوادث الدهس .. كارثة وطنية

|
كنت في إسطنبول مرة، وقت زحام السيارات وقد أخذ الطريق منا أكثر من ساعة، لم أشاهد خلال تلك الرحلة أي حادث مروري، نظرت إلى السيارات فلم أجد أيًّا منها فيه أثر من حادث. لاحظت أن هناك تفاهمًا واحترامًا بين السائقين، فلا ترى عند الإشارة، مثلما يحدث عندنا، حينما يأتي سائق المركبة من أقصى اليمين ليدخل الطابور، والسبب في ذلك، أن المرور يخالف من يقوم بذلك. حين وصلت الفندق وجدت مكالمة من شخص لم يهاتفني من فترة طويلة، وكذلك رسالة بأن أحد الأصدقاء الأعزاء، تقول إن العميد شعيان آل عضيلة المطيري قد انتقل إلى رحمة الله. كنت أعلم أن الفقيد يتمتع بصحة جيدة جدًّا، فهاتفت الرياض للتعزية والسؤال عن سبب الوفاة، فكانت وفاته -والله- قصة لم أسمع مثلها، إلا عندما كانت القوات الأمريكية تحتل العراق، حيث يدهس المواطن العراقي وكأنه حيوان مفترس. كان العميد يمشي في الشارع آمنًا، وجاءه شاب متهور يسوق سيارته بأعلى سرعة فصدمه وطار جسده الطاهر 50 مترًا عن مكان الحادث. لقد كان- رحمه الله- رفيع المقام في عائلته وجماعته، فهو نعم المربي لأبنائه، حيث يعامل الجميع من أبنائه وبناته وزوجاته كأسنان المشط، وكان حريصًا جدًّا على تحصيلهم العلمي بمتابعته المستمرة والهادئة، أما بين جماعته فهو بمنزلة الشيخ والكبير لهم، حيث يساعد ضعيفهم ولا يبخل بجاهه لتسهيل أمور حياتهم، لذلك كان كل جماعته يعزى بوفاته- رحمه الله، كما فقده المسجد وجماعته، وكان من المتنافسين في التبكير للصلاة. خلال شهر رمضان الماضي حصلت أيضا حادثة مماثلة في بريدة، حينما قام شاب متهور يقود سيارة كامري بسرعة مجنونة بدهس أم واثنين من أطفالها، وقذفهم عشرات الأمتار، حيث كانت الأم خارجة مع أبنائها من المسجد لصلاة التراويح، وأكد العقيد خالد الضبيب مدير إدارة الحوادث في مرور منطقة القصيم الذي باشر الحادث، أن حوادث الدهس تزداد مع خروج المصلين إلى المساجد في صلاة التراويح والقيام، وكذلك في أماكن التسوق والمطاعم، مناشدًا قائدي المركبات أخذ الحذر والالتزام بالسرعة القانونية، ومراعاة المشاة عند أماكن العبادة والأسواق. حوادث الدهس صارت شرًّا عامًّا، فلم يسلم منه أحد، فقد فقدنا اثنين من أعضاء هيئة التدريس خلال عام، أحدهما أستاذ من السودان عرف بالتزامه وهدوئه وإخلاصه في العمل، حيث كان ذاهبًا لجلب بعض الهدايا قبل إجازته، أما الآخر فهو أستاذ الأدب الفرنسي الدكتور صالح بن ضحوي العنزي، الذي وافته المنية منذ أسبوعين، حينما كان ذاهبًا على رجليه لجلب وجبة العشاء في منطقة شرق الرياض. كان- رحمه الله- زميلًا لي في المجلس العلمي في جامعة الملك سعود لمدة أربع سنوات، واتصف بالمنطق والأدب والموضوعية في النقاش، كما تميز بلغة عربية جميلة قلما تجده يلحن، على الرغم من أن تخصصه في الأدب الفرنسي، كما تخصص- رحمه الله، وبحكم تخصصه في ترجمة العديد من الكتب الدعوية المبسطة لشرح الإسلام من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية، وكانت وفاته خسارة وصدمة للجميع، فقد كان شخصية جمعت بين حسن الخلق وقبول الناس، نسأل الله أن يرحمه وأن يجمعنا معه عند حوض المصطفى - صلى الله عليه وسلم. حوادث الدهس في السعودية أصبحت ظاهرة تحتاج إلى حملة وطنية ترتكز على شقين: الأول تثقيفي، والآخر إجرائي، بإصدار عقوبات صارمة؛ لأن القيادة المتهورة التي تستهتر بحياة الناس أقرب للقتل العمد. في هذا السياق، أتذكر أن أول شيء لاحظناه في أخذ رخصة القيادة في أمريكا هو حق المشاة، حيث يعد من أهم مواضيع قوانين القيادة والسير. من المؤسف ألا نرى أولوية في بلدنا لحقوق الناس في الطريق، ونحن البلد الذي أسس على أسمى وأرقى مبدأ، حيث اعتبر الإسلام أن النفس والحفاظ عليها مسألة عظيمة عند الله. الحملة المطلوبة لا يمكن أن يقوم بها جهاز المرور وحده، بل لا بد أن تؤصل ثقافة احترام المشاة وتجريم المخالفين، كما ينبغي وضع جسور عبور خاصة لعبور المشاة، خصوصًا أن أغلبية شوارعنا أصبحت شبه خطوط سريعة يستحيل عبورها.
إنشرها