Author

كيف يناقش السويديون ميزانيتهم؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
في أيلول (سبتمبر) من كل سنة يقدم وزير المالية السويدي ميزانية الدولة للعام الذي يليه للبرلمان لمناقشتها ومن ثم تصديقها. وأغلب الدول تفعل ذلك في شهر تراه مناسبا للبدء في سنتها المالية. ولكن للميزانية السويدية لعام 2013 طعم خاص، لأنها ربما الميزانية الوحيدة في الدول الصناعية في أوروبا وشمال أمريكا التي تخصص مليارات الدولارات للاستثمار والتوسع الاقتصادي، وفي الوقت نفسه تخفض الضرائب وتعزز بشكل ملحوظ المظلة الاجتماعية لحماية الفئات الضعيفة مثل المعوقين وكبار السن والعاطلين والأطفال وغيرهم. السويد تتجه صوب زيادة النفقات والاستثمار، ولا سيما في البنى التحتية ـــ رغم أنها الأحدث في العالم ـــ والبحث العلمي والتعليم والجامعات ــــ رغم تطورها الفائق ــــ وشقيقاتها الأوروبيات تئن تحت ثقل مشاكلها الاقتصادية، وبعضها يمر بمراحل انكماش خطيرة تحتم عليه خفض النفقات وزيادة الضرائب والتخلي عن كثير من منافع الائتمان الاجتماعي، وبعضها الآخر على شفا الإفلاس. ويشهد الله أنني غير راض عن السياسة الخارجية لهذا البلد، ولا سيما تخليه أخيرا عن عدم انحيازيته وإرساله قوات غازية إلى أفغانستان وتعاونه الوثيق مع المخابرات الأمريكية ــــ وهذا سجلته في المقابلات التي أجرتها معي الصحافة السويدية ــــ إلا أنني منبهر بالسياسة الداخلية وكيفية تطويعها لخدمة الإنسان السويدي. وما يميز هذا البلد ليس وارداته الهائلة وميزانيته الضخمة ــــ بعض البلدان العربية قد تبز السويد بالواردات. ما يثير الانتباه والدهشة والإعجاب هو النموذج السويدي الذي امتد تأثيره إلى أغلب دول شمال أوروبا، وصار ميزة لثورة اجتماعية وفكرية واقتصادية أساسها أن المواطن هو القيمة العليا، له حقوق، وعلى الدولة الحفاظ على حقوقه كاملة. ويأتي في مقدمة حقوق المواطنة حق النقاش المكشوف، والمسألة ليست فقط في البرلمان، بل أمام المواطنين، لكل صغيرة وكبيرة تخص شؤون الميزانية. أي ليس هناك محرمات لما يمكن أن يضعه المواطن من أسئلة بخصوص الميزانية، ومن واجب الدولة الإجابة عنها بالتفصيل. الأرقام ليست مهمة، لأنها ميزانية كبيرة وبإمكان القارئ الحصول عليها من خلال الموقع الإلكتروني للسفارة السويدية في بلده وباللغة التي يشاء. الأهم هو أن كل مواطن في السويد يعرف ما سيكون نصيبه من الميزانية في عام 2013 وكيف جُمعت الواردات لحد الفلس، وكيف ستنفق لحد الفلس، ومن ضمنها ميزانية وزارة الدفاع. ومنذ نحو أسبوعين والصحافة ووسائل الإعلام الأخرى منهمكة في تمحيص ونقد ودراسة كل باب من أبوابها، ووزير المالية أندش بوري الذي يعد واحدا من أكفأ وزراء المال في العالم يعقد اجتماعات متسلسلة ومستمرة مع جميع القطاعات للإجابة عن استفساراتها ــــ هذا عدا ما تعرض له من مسألة ونقاش وامتحان من قبل أعضاء البرلمان وفي الصحافة والإعلام. هذا النقاش المفتوح والحر وبهذه الكثافة وعلى الملأ هو في رأيي السمة الرئيسة للنموذج السويدي. الميزانية هي أساس الدولة، والنقاش المفتوح حولها وغيرها من المسائل هو أساس الدولة المدنية والعصرية. كل شيء تقريبا في هذا البلد ممكن مناقشته وإثارة الأسئلة عنه، والدولة ملزمة بالإجابة. ولهذا أتت الميزانية ـــ التي في إمكان أي مواطن سويدي الاطلاع الكامل عليها من خلال الإنترنت ــــ مفصلة جدا، حيث يعرف المتقاعد مثلا ما هو نصيبه منها في عام 2013 ويعرف الأستاذ الجامعي ما سيحصل هو وجامعته عليه من مخصصات ومنح مقابل التدريس والبحث العلمي، وهكذا مع قطاعات المجتمع الأخرى كافة. النقاش الحر والنقاش المفتوح حول مسائل تهم حياة الإنسان ومصيره ومستقبله يُعد هنا حقا لا يمكن التجاوز عليه، وصار سمة أساسية للنموذج السويدي، الذي لولاه لسقطت الدولة ككيان مدني وحضاري.
إنشرها