Author

الخبير والخابور

|
كان مفهوما مع فجر التنمية أن تلجأ مؤسساتنا الخاصة والعامة إلى الخبرة الأجنبية لسد الفراغ في تخصصات لم تكن متوافرة حينها تحت سياسة "الخبير" و"النظير" على أساس أن يكتسب الثاني من الأول خبرته في نطاق عدد قليل من السنوات، غير أن "الخبير" استطاع أن يطيل مدة بقائه عقودا متتابعة لأسباب منها ما يتصل بشطارته في ترسيخ ضرورة استمراره وبما يشبه تماماً ضرورة وجود (الخابور) في مكانه ومنها، وهو الأسوأ، ما يتصل بتحول "الخبير" إلى موضة عند بعض مؤسساتنا، وبعض المسؤولين إن لم يكن حالة إدمان بيروقراطية عليه. هذا الحكم ليس مطلقا، فهناك مؤسسة تضطر إلى الخبرة الأجنبية التي تحتمها الجدة في المجال مثلا أو ندرة المتخصص الوطني فيه أو انعدامه، كما أن هناك نوعا من الخبراء لا يتهافت على البقاء بقدر ما يكون مستجيبا لمهمة تتطلب بقاءه. لكن تأملا في مجريات العمل في القطاعين الخاص والعام يقدم انطباعا فاقع اللون عن أن حشدا من هذه الخبرة بقي بسبب تضافر المصلحة بين الخبير والمؤسسة ليس بحكم الكفاءة نفسها، ــــ إن كانت متوافرة في الخبير ــــ، وإنما لأن بعض العقليات الإدارية مسكونة بهاجس "الأجنبة" مقابل الحساسية من الخبرة الوطنية التي ينظر إليها البعض بعدم التقدير، بل يشيح عنها بعض آخر على أساس أنها ليست حاضرة تحت الطلب والسمع والطاعة أو لا تستجيب لعمل دون سقف محدود للوقت وفي أي حين منه، فضلا عن أنها لا تملك خاصية "تدبير" المطلوب بمواصفات ومقاييس المسؤول حتى لو لم تتفق مع المعايير العلمية والموضوعية للمجال! هذا الميل للخبير الأجنبي، كاد أن يصبح ميلا غريزيا، فأفقدنا حتى القيمة العلمية العملية المتوخاة أساسا من الخبرة، وبالتالي هبط بمعايير التعاقد إلى مجرد الاكتفاء بأن يكون الخبير حامل شهادة عليا وأنه عمل في ذلك البلد أو تلك المؤسسة دون تدقيق وتحر عن مصدر الشهادة وأوراق الخبرة وصدقية السيرة العملية وبالتالي عن وزن هذه الخبرة ونوعيتها أو بالاتكال على التوصية التي قد تدخل فيها احتمالات الفزعة لمصلحة أو علاقة خاصة أو حتى عدم قدرة الموصي على تقييم الخبرة نفسها. لذلك جاءنا خبراء سوغوا لنا زراعة الصحراء باستنزاف مخزون مياهنا المحدودة جدا، وجاءنا خبراء لسياسة تعليم جعلت أجيالا تجتر حشوا نظريا وتدرس تاريخ العلوم أكثر من العلوم نفسها.. وجاءنا خبراء في النقل وحين تم تدشين قطار جديد (حرن) لأنه "فقط" تم تجريبه في صقيع براغ وليس في رمضاء الجزيرة، وجاءنا خبراء في الاقتصاد يعيدون إنتاج مفاهيم وتجارب ونماذج اقتصادية أكل الدهر عليها وشرب ويجعلون من حبة المصطلح قُبَّة وجاءنا في الإدارة خبراء من ورثة ثقافة (المدير الكل بالكل) وقانونيون من مدرسة الباب العالي، وماليون أسرى لجدول الضرب الصغير والكبير والعد على الأصابع، ومهندسون وأساتذة جامعة وأطباء بشهادات مزيفة ومعماريون جعلوا فللنا بلوكونات مفتوحة على أنهار السموم والغبار وعمائرنا ومدارسنا بلا مواقف أو مخارج طوارئ، وخبراء ميكنة رهنوا استيرادها وقطع غيارها لشركات بعينها. أما التسويق فيكفي أن الخبرة جعلت "العقال" بالأحمر والأصفر والأزرق والأخضر!! ومع أن الخبرة الوطنية أثبتت أنها متى أعطيت القوس فهي باريها فما زال سوق الخبراء الأجانب رائجا حتى احدودبت ظهور البعض وظلت الحكاية تعيد نفسها فطار النظير وبقي "الخبير" ليس لأن الخبرة لم تمرر إليه فحسب، بل كذلك لأن الامتيازات من مقابل مادي وبدلات كانت حاتمية مع الخبير الأجنبي شحيحة مع (النظير) الوطني.. فلا نامت أعين السعودة!!
إنشرها