Author

خريطة توزع منابع النفط

|
لقد كان لتوزع منابع النفط جغرافيا حول العالم أثر بالغ في استراتيجية إنتاجه بكميات كبيرة وغير معقولة منذ بداية عهدنا بالإنتاج، ما جعل مسألة نضوب هذه الثروة الثمينة في مؤخرة الاهتمامات الدولية. فمعظم حقول النفط التقليدية، ذات التكلفة الرخيصة، توجد في أراضي بلدان كانت فقيرة وتُصنف من العالم الثالث ويعوز بعضها كثير من المصادر الطبيعية الأخرى. لذلك أصبح اقتصاد هذه الدول يعتمد اعتمادا كليا على دخل مبيعات النفط. ولم تكن تلك الدول في بداية اكتشاف الحقول النفطية تمتلك التكنولوجيا والكوادر البشرية المدرَّبة من أجل القيام بمتطلبات إنشاء مرافق إنتاج وصناعة النفط، لضمان استقلالية قراراتها دون تدخُّل أو مساعدة خارجية. بل اضطرت آنذاك، ومن ضمنها دول الخليج العربي، وبعض دول أمريكا اللاتينية، إلى الاستعانة بالخبرات الأجنبية عن طريق إبرام عقود مشاركة طويلة الأجل، تشمل الاستكشاف والإنتاج والنقل والتسويق. ولم تكن تلك العقود ُمنصِفة في معظم الأحوال، ما حدا بالدول صاحبة الأرض إلى فتح أبواب المفاوضات مبكرا مع الشركات الأجنبية لتعديل الاتفاقيات لمصلحتها واسترداد بعض من حقوقها المهضومة. وكانت تلك عملية مضنية استمرت عقودا عدة حتى حصلت الدول المنتجة على معظم حصصها المشروعة وانتفاء الغبن الذي كان واقعا عليها. وبعد انقضاء فترة أخرى من المفاوضات انتهت بعودة كامل ملكية الحقول النفطية إلى أصحابها. وكان الفضل الأكبر في بدء مفاوضات الشركات الأمريكية العاملة في المملكة وتحقيق المكاسب المرجوة، يعود بعد الله إلى الجهود المخلصة والفاعلة التي بذلها ابن المملكة البار والرجل الفذ الشيخ عبد الله الطريقي، رحمه الله، الذي كانت قد امتدت جهوده المخلصة لتشمل معظم دول الشرق الأوسط التي كانت ترتبط باتفاقيات مماثلة مع شركات النفط العملاقة. وكان للدور الكبير الذي لعبته شركات النفط العالمية في بداية ازدهار عصر النفط تأثيره الواضح في سياسة الأسعار التي كانت تنتهجها لمصلحة بلدانها الصناعية. وكان سعر برميل النفط (سعة 42 جالونا)، قبل السبعينيات يُباع بسعر يقل عن دولارين، وهو ثمن لا يمثل القيمة الحقيقية لهذه المادة النادرة والثمينة. ناهيك عن أن حصة البلد المنتج من ذلك المبلغ الزهيد يقل عن نصف السعر المُعلَن، وكان عملا مجحفا بحق الدول المنتجة التي لم يكن لها حول ولا قوة. وقد أدى ذلك التوجه إلى حدوث أمرين مهمين ساهما في تشجيع الإسراف في استهلاك هذه الثروة الناضبة. الأول، هو أن الدول المضيفة كانت بحاجة إلى زيادة الدخل ولم تمانع في رفع الإنتاج إلى أعلى مستوى، بسبب تدني الأسعار آنذاك وضآلة حصتها من صافي الدخل، إضافة إلى نقطة مهمة، وهي كونها أصلا لا تملك القرار. والأمر الثاني محاولة تلك الشركات الاحتكارية امتصاص أكبر كمية ممكنة من النفط الخام الصافي قبل أن تتعرض لضغوط قانونية من أجل التنازل عن حقوقها الاستثمارية لمصلحة الدول المضيفة، وهو ما حدث فعلا في وقت متأخر. ولم تُبال تلك الشركات الاحتكارية في حرق كميات هائلة من الغاز المصاحب للنفط، لأنها لم تكن ترى جدوى اقتصادية من تجميعه وتحويله إلى المصانع البتروكيماوية، ولا فائدة عاجلة لها من إعادة حقنه في حقول النفط من أجل الحفاظ على الضغط في مكامن الإنتاج. وأذكر على سبيل المثال، أنني كنت أحضر اجتماعا في أواخر الستينيات، كان يضم مجموعة من المهندسين الأمريكيين الذين كان معظمهم قد انتقلوا حديثا من العمل في إحدى شركات النفط الأمريكية التي كانت تعمل في ليبيا إلى العمل مع شركة أرامكو في المملكة. وكان أحدهم يتحدث ''عفويا'' ويذكر أن الشركات الأمريكية كانت في ذلك الوقت تُحاول أن تنتج أكبر كمية ممكنة من النفط قبل أن يحدث أي تغيير في سياسة أو تركيبة الحكومة هناك. ولم تمض إلا بضع سنوات حتى قامت الثورة الليبية وأحدثت تغييرات جوهرية على اتفاقيات شركات النفط لمصلحة الحكومة الليبية الجديدة، وهو فعلا ما كانت شركات النفط تخشى حدوثه. ولو أن قسما كبيرا من هذه الثروة النفطية كانت أساسا تنبع من أراضي الدول الغربية المتقدمة علميا وتكنولوجيا، لكانت الصورة مختلفة تماما، ولكانت هناك مفاهيم ومقاييس غير ما نعرفه اليوم. فلربما قرروا بيعه بوحدة اللتر أو الجالون بدلا من البرميل، ويكون إنتاجه حسب معادلات تضمن دوامه لعقود طويلة. ومن أهم العوامل التي كانت من الممكن أن تساعد على إطالة بقائه عدم السماح بأن يكون المصدر الوحيد لتوليد الطاقة، لكونه مادة ناضبة. ولم يكن قط من اهتمام الدول الكبرى المستهلكة لمعظم الإنتاج النفطي أن تلقي بالا لمصير الدول المنتجة التي يعيش سكانها على أرض صحراوية جرداء خالية من أبسط مقومات الحياة، مع شح شديد في المصادر المائية. والهدف الرئيس لتلك الدول الغنية استنزاف الثروة النفطية التي تملكها دويلات الخليج وأخواتها بأدنى الأسعار، تاركة أمر مستقبلها بأيدي أبنائها، ومتجاهلة واقع الحال التي تسود المجتمعات المتخلفة تقنيا وصناعيا. وإذا كان هناك تقصير أو ملامة فنحن المسؤولون عنه، لأننا لم نوضح للعالم صعوبة العيش هنا بدون مصدر ولو متواضعا يحافظ على استمرارية الحياة. وعلى المدى المنظور ليس لنا استغناء عن النفط كمصدر للدخل. وهنا يأتي دورنا في تقرير مصير مستقبلنا، وقد وصلنا إلى مرحلة مُتقدمة من النضج السياسي والعلمي لاتخاذ قرارات تضمن لنا ولأجيالنا حياة طبيعية مستديمة، وذلك عن طريق استثمار ما لدينا من فائض المال في مصادر الطاقة المتجددة قبل أن ''تطير الطيور بأرزاقها''.
إنشرها