Author

كل شيء سيرفع الأسعار إلا إذا

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
يجب ألا نتوقع من التجار أن يكونوا رحماء لنا أشداء بينهم، بل هم أشداء على المستهلكين رحماء بينهم، وهم في غالب الأمر يسعون إلى بقاء هذه القاعدة صحيحة، فهي التي تضمن لهم استمرار تدفق الأرباح والحفاظ على مستويات الأسعار. فعندما يشهد العالم موجة من الجفاف، وبالتالي أزمة غذاء، فإن الاقتصاد ''لدينا'' لا يعرف لهذا معنى آخر سوى رفع الأسعار، فلا عثمان بيننا ولا ابن عوف. وعندما تقرر وزارة العمل أن ترفع رواتب الموظفين السعوديين أو أن ترفع نسب السعودة فإن هذا القرار سيزيد من تكلفة العمل حتما، ولمعالجة هذا الأمر طريقان لا ثالث لهما: فإما أن يتحمل التاجر تلك الزيادة في تكاليف العمل فتنخفض أرباحه ولا تتغير الأسعار أو أن يُحَملها قسرا على المستهلك (المواطن) ويرفع الأسعار بما يعادل نسبة الارتفاع في تكلفة العمل، وفي بيئة أعمال كالتي تشهدها المملكة فإن رجال الأعمال لا يعرفون سوى الخيار الثاني، ولن يتوانوا عن رفع الأسعار وتحميل المواطن وزر هذه التكاليف. وهي الحال نفسها إذا قررت وزارة العمل المضي قدما في قرارها بأن تقنن ساعات العمل وأن تلزم بإجازة يومين للعمال، فالأعمال ستستمر على حالها، وكل ما سيقوم به رجال الأعمال في مواجهة هذه القرارات تعيين موظفين أكثر لمقابلة ساعات العمل التي تم تجزئتها، أي باستخدام طريقة تقسيم أوقات العمل على شكل ورديات (شفتات). فقرار وزارة العمل لزيادة الفرص الوظيفية لا تترتب عليه زيادة إنتاج، بل زيادة عدد الموظفين فقط. وهذا سينعكس حتما على زيادة رواتب العمال، أي زيادة في تكلفة العمل (نظرا لزيادة العمال)، بينما يبقي الدخل كما هو ثابتا، وكما تم شرحه سابقا سيكون لرجال الأعمال خياران ليس لهما بديل ثالث، إما أن تتحمل المؤسسات هذه التكاليف، وبذلك تنخفض حصة رجل الأعمال في الأرباح، أو أن يتحمل المجتمع كل هذه التكلفة وترتفع الأسعار حتى يبقى رجال الأعمال على مستوى الرفاهية والأرباح نفسهما. لا يمكن حل هذه المعضلة بالقوانين ولا بالرقابة، ذلك أن آليات العرض والطلب ستفرض نفسها، فالتاجر لن يضحي بأرباحه من أجل أن ترضى وزارتا العمل والتجارة، والمستهلك من جانبه يريد السلعة طالما هو يستطيع أن يدفع حتى لو تذمر أو صرخ قليلا. فما دامت السلعة موفرة فريال أو أكثر لن يكون مضرا لو كان مؤلما. هذه العلاقة بين التاجر والمستهلك تجعل أي رقابة على الأسعار عملا لا معنى له. في المقابل قد تتخذ الدولة إجراءات أكثر تعسفا تجاه التجار وتفرض الأسعار فرضا وتوجه الاقتصاد بالقوة، وعلى التجار المخالفين مواجهة عقاب قاس يصل للسجن ومصادرة الأموال، وهذا يعني عسكرة الأمة، وهذه تجربة قاسية باءت بالفشل في كل دول العالم التي تبنتها، فقوانين العرض والطلب تفرض نفسها بالقوة فيقل المعروض الرسمي بشكل لافت وتخلق الأزمة أسواقا سوداء في كل مكان تبيع وتشتري بالسعر الذي يتفق عليه المستهلك مع التجار بعيدا عن صرخات المجتمع مهما كانت عالية. بل إن أولئك الذين يصرخون هم فعلا من يقومون بالشراء دائما من السوق السوداء، فالمعروض في السوق الرسمية غير كاف فعلا. الحل الآخر أن تقوم الدولة نفسها بعمل التجار، وهنا يتحول المجتمع إلى اشتراكي أممي، وتجربة مثل هذه تحتاج إلى حُسن إدارة، بل أنبياء وصديقين ونوايا حسنة وشعوب مسالمة، وأثبتت التجارب العالمية الأخيرة أن هذا كله يتحول إلى ديكتاتورية مع جوع وفشل. في ظل هذه الخيارات قد يسأل القارئ: كيف الخلاص؟ وأين المفر من فك ارتفاع الأسعار الذي لا يرحم؟ والحل دائما يأتي من عمق الاقتصاد نفسه ومن قلب المشكلة. يستطيع التجار رفع الأسعار إذا (وإذا فقط) كانوا قلة، أمام جموع هائلة من المستهلكين. إذا سيطر عدد قليل من التجار على موارد الأمة ومصادر إنتاجها هنا لا تسأل عن القوة والسيطرة ولا الثروات والأسعار. عندما يقرر أشخاص بعدد أصابع اليد الواحدة يجتمعون في غرف يسمونها بأسماء ما أنزل بها من سلطان يرفعون ويخفضون، وإذا زادت الدولة عليهم تجمعوا حول الوزير يحلفون له بالله ما لهم من نصير، وأنهم حماة الوطن وأنصاره. ولأجل المحافظة على هذه القدرة والقوة يفعل التجار المستحيل من أجل احتكار الأسواق والمصادر الإنتاجية ويمنعون دخول مستثمرين جدد، في الوقت الذي يتزايد عدد المستهلكين مع كل مولود يولد وكل عامل جديد يدخل إلى البلاد. فلا تظن أن زيادة عدد العمالة في البلد أمر مضر للتجار، بل هو عين الخير عندهم. وللحل فلا بد للدولة من تفكيك هذه السيطرة في كل مجال بهدوء واتزان مستمرين، يجب زيادة عدد المستثمرين إلى حدود قصوى، ويجب أن نشجع تحول كبار الموظفين في الشركات إلى مستثمرين جدد، وهذا يتطلب إنشاء صناديق تنمية استثمارية وليس بالضرورة صناعية، الهدف منها هو مد يد العون لكبار الموظفين في الشركات ليتحولوا من عالم الوظائف إلى عالم الاستثمار في المجال نفسه، كما يجب أن تعمل الدولة، خاصة وزارة التجارة بشكل أساسي، على تفكيك الشركات الكبرى حتى لو كانت مساهمة أو مغلقة أو محدودة. يجب أن يكون لدينا آلاف الشركات في استيراد المواد الغذائية وعشرات الآلاف في توزيعها وملايين في بيع التجزئة. هذا سيخلق توزانا بين التجار والمستهلكين ويخلق فرصا وظيفية كثيرة وفي الوقت نفسه سيخلق منافسة كبيرة وقريبة من الكاملة بين الشركات والمؤسسات، ما يدفع التجار لتفضيل المنافسة على السعر وتقبل فكرة التضحية ببعض الأرباح في مقابل المحافظة على المستهليكن قبل أن يتجهوا إلى المنافسين الآخرين.
إنشرها