Author

البريد السعودي.. بين تعظيم الإنجازات وتدني الخدمات

|
يبالغ كثير من مؤسساتنا في عرض إنجازاتها وتضخيم أعمالها بطريقة تثير السخرية وتضطر المستفيدين من الخدمة والمتعاملين مع الشركة إلى تبيان الحقيقة وتصحيح الصورة. ولا ندري ما سبب الخوف من ظهور الحقائق وكشف العوائق حتى يعرف الناس الصعوبات التي تواجه المنظمات فيعذروها إن أخفقت ويفاخروا بها إن تألقت. وآخر من مارس تضخيم أداء المنظمات مؤسسة البريد السعودي عندما عرض لنا نائب المدير العام للبريد مساء الأحد الماضي على قناة ''الإخبارية'' إنجازات المؤسسة بطريقة تخالف الواقع وكأنه يسرد لنا إنجازات هيئة لا نعرف عنها شيئا ولم يسبق لنا أن تعاملنا معها. ونحن لا ننكر ما يقدمه البريد السعودي من خدمات منذ إنشائه رغم شح الإمكانات، وقلة الخبرات، وتعاقب الإدارات، فقد عمل كل ما في وسعه كي يكون مؤسسة تلبي حاجات الناس والمنظمات، ولا ينكر خدمات البريد السعودي إلا حاقد أو مكابر، لكننا في الوقت نفسه يجب ألا نبالغ في عرض الإنجازات ونحاول إقناع الرأي العام بصورة لا تعكس الواقع. وأريد في هذا المقال أن ألقي الضوء على واقع البريد السعودي كمشترك استفاد كثيرا من خدماته وعانى كثيرا من إخفاقاته بطريقة تبين للمؤسسة أين تقع بالفعل وتوضح للناس الإنجازات التي حققها البريد السعودي، والصعوبات التي واجهها، والأخطاء التي وقع فيها. عَبَرَ البريد السعودي خلال تاريخه العريق بثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى التي يطلق عليها مرحلة ما قبل تأسيس المملكة ولها خصائصها وتحدياتها لا يتسع المكان لذكرها. والثانية مرحلة ما بعد التأسيس، التي أخذ فيها البريد وضعه وتشعبت خدماته. أما المرحلة الثالثة فيمكن أن أطلق عليها مرحلة محاولة الوصول إلى المهنية، وبدأت عندما تم تحويل المديرية العامة للبريد إلى مؤسسة عامة بقرار من مجلس الوزراء في 29/3/1423، وهي تعمل وفق فلسفة القطاع الخاص. وفي هذه المرحلة بدأ البريد عهدا جديدا يحدوه الأمل في قفزة هائلة في الخدمات البريدية، فقد تم استحداث إدارات وتقديم خدمات جديدة والإعلان عن مشروع للعنونة والتوصيل الحديث إلى المنازل بهدف بناء مؤسسة عصرية تقوم بأعمال البريد التقليدية وغير التقليدية بطريقة حضارية أولها وأهمها وجود عناوين للأفراد والمنظمات، فليس بالضرورة أن تشترك في الخدمات البريدية حتى تحصل على عنوان، بل يجب أن يكون لك عنوان حتى يسهل الوصول إليك والإفادة من الخدمات الأساسية التي تقدمها أجهزة الدولة والقطاع الخاص، مثل الكهرباء، والمياه، والهاتف، وخدمات الهلال الأحمر، وغيرها. وعلى الرغم من هذا التاريخ الحافل وهذا العمر المديد إلا أن إنجازات البريد ما زالت أقل من المأمول، وما تحقق أقل من الطموحات، ونحن كمشتركين لا نرى فرقا كبيرا بين خدمات البريد إبان كان يتبع وزارة البرق والبريد والهاتف وبين ما هو عليه الآن. وبالتأكيد هناك أسباب حالت دون تحقيق البريد السعودي أهدافه والرقي بخدماته، وهنا سأذيل مقالي بسرد أهم الأسباب - من وجهة نظري - ومن المؤكد أن للبريد أسبابه وقناعاته. أول وأهم سبب - في رأيي - افتقار البريد السعودي إلى الرسالة وعدم وضوح الرؤية، فالبريد السعودي يعمل من دون رسالة واضحة وبرؤية ضبابية، ويحتاج إلى مرشد، فقد ضل طريقه بالفعل. ولا أريد أن أسهب كثيرا في هذا، فقد بينت في مقال سابق كيف تضل المنظمات الطريق وتفقد البوصلة إذا لم يكن لديها رسالة أبدية ورؤية منظورة. السبب الآخر ابتعاد مؤسسة البريد عن عملها الجوهري والاهتمام المبالغ فيه بأعمال فرعية لا تفيد السواد الأعظم من المشتركين، وهذه الخدمات تحتاج إلى برامج متقدمة وخبرات عريقة وبنية تحتية فريدة لم يصل إليها البريد السعودي بعد. فعلى سبيل المثال يتغنى مسؤولو البريد بنظام ''واصل'' الذي يبدو أنهم قد استثمروا فيه غالبية طاقاتهم وأوقاتهم والميزانية المخصص لهم رغم أن المشتركين يرون فيه الكثير من القصور. ونظام ''واصل'' وما هو على شاكلته أحد إفرازات القيادات التنظيمية في الدول النامية الذين يرون أن التطور يعني الاستثمار في التقنية والاعتقاد بأهمية تطويع التقنية إلى أقصى حد ممكن. وهذه ليست سجية ينفرد بها البريد السعودي فحسب، بل هي خاصية تشترك فيها أغلبية مؤسساتنا الصناعية والخدمية. ترى أغلبية مؤسساتنا أن التنمية وجودة الخدمة تعني الاستثمار المبالغ فيه في التقنية، وهذا غير صحيح. فعلى الرغم من أن التقنية مهمة في رفع جودة المنتجات والخدمات، بل إن كثيرا من الخدمات لا يمكن أن تتم من دون تدخل التقنية إلا أنها (أي التقنية) تدخل عند الحاجة، لذا يجب أن يكون التركيز منصبا على النشاط الأساسي للمؤسسة وليس على التقنية. وبينت وجهة نظري حول مخاطر الاستثمار المبالغ فيه في التقنية من قبل بعض مؤسسات الدولة في مقالات سابقة عدة يمكن الرجوع إليها. السبب الآخر لتدني خدمات البريد عدم وضوح هذه الخدمات للمشتركين، بل أظن أن الخدمات التي يفترض أن يقدمها البريد غير واضحة حتى في أذهان قيادات المؤسسة، وتبين لي هذا من التصريحات التي تصدر من بعض قيادات البريد بين الوقت والآخر. هذه - في رأيي - أهم أسباب تدني خدمات البريد السعودي رغم ما تبذله المؤسسة من مجهودات ضخمة نقدرها جميعا، لذا نريد من هذا الصرح العملاق أن يعود إلى نفسه، ويصيغ رسالته، ويحدد أهدافه، ويرسم خططه، ويخطو خطوات معقولة بناء على رؤية منظورة، دون استعجال النتائج، فالأهداف المرجوة ليس بالضرورة أن تتحقق في عهد القيادات الحالية، لأن المنظمات تبقى والقيادات تفنى.
إنشرها