Author

مصر تلجأ إلى صندوق النقد الدولي (2)

|
في الحلقة السابقة من هذا المقال تناولنا طبيعة الظروف التي دعت مصر إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي كملجأ أخير لمواجهة أزمة سيولة النقد الأجنبي التي يعانيها الاقتصاد المصري حاليا، وتوقعنا أن يواجه هذا الاتفاق معارضة شديدة من معظم القوى السياسية على الساحة، إلا أن معارضي الاتفاق مع الصندوق ليس لديهم بديل جاهز مصاغ بصورة جيدة يمكن أن يحل أزمة السيولة التي يعانيها الاقتصاد المصري، بصفة خاصة بالنقد الأجنبي، الذي يمثل عنق زجاجة حاد حاليا في مصر، بعد الجفاف النسبي لمنابع النقد الأجنبي، بصفة خاصة الاستثمار الأجنبي المباشر وتأثر قطاع السياحة بصورة واضحة نتيجة للأوضاع الأمنية التي تعانيها مصر، وما يطرحونه من خيارات لا تؤتي أثرها سوى على المديين المتوسط والبعيد، بينما الوضع الذي لا يفهمه الكثيرون أن هناك أزمة سيولة حادة وأن الحكومة المصرية لا تجد من يقرضها حاليا، ومن ثم فإن الخيارات المتاحة أمام مصر في الوقت الحالي تعد ضئيلة للغاية، وأخذا في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية الخارجية، فإن الاتفاق مع الصندوق، بغض النظر عن قيمة القرض أو شروطه، يمثل خطوة لازمة لمساعدة الاقتصاد المصري على تخطي العقبات التي يواجهها حاليا، خصوصا فيما يتعلق بتهيئة البيئة الاقتصادية الكلية لضمان تدفق النقد الأجنبي من مصادره المختلفة إلى الاقتصاد المصري. بما أن بعثة الصندوق لم تصل مصر للآن، ولم يتم الإعلان عن خطاب النوايا الذي ستقدمه للصندوق، فإن القيمة النهائية للقرض غير معلومة، كما أن الصورة العامة حول شروط القرض، أو الملامح الأساسية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي سيصاحبه غير محددة، وكل ما تم الإعلان عنه حتى الآن هو أنه من المتوقع أن تتم زيارة خبراء الصندوق لمصر في أوائل أيلول (سبتمبر) المقبل لبدء المفاوضات حول حزمة السياسات التي ستطبقها مصر بموجب الاتفاق. لكن من المؤكد أن الصندوق سيطالب بحزمة سياسات للإصلاح مثل رفع الضرائب على الدخول، بصفة خاصة على الشرائح الدخلية المرتفعة، وزيادة الرسوم على السلع والخدمات العامة، وخفض مستويات الدعم أو ترشيده بصورة أكبر بحيث يذهب أساسا للفئات غير القادرة، وتجميد هيكل الأجور والمعاشات التقاعدية، وربما يدعو الصندوق لخفض قيمة الجنيه للتخفيف من العجز في ميزان المدفوعات، وهي جميعها مطالب غير شعبية، خصوصا في هذه المرحلة الدقيقة، حيث تسعى مصر إلى تعزيز مفاهيم المساواة والعدالة ومحاربة الفقر، وهي مبادئ سيكون من الصعب الالتزام بها بصورة كاملة مع تطبيق برنامج الإصلاح الذي يتوقع أن يطالب به الصندوق، وأعتقد أن برنامج الإصلاح الذي سيصاحب القرض سيضع الإدارة المصرية الحالية بين مطرقة الصندوق وسندان الشعب، وربما يحدث هجوما شديدا على الإجراءات المقترحة، كونها ستمس الحاجات الأساسية للمواطن، الذي تدهورت مستويات معيشته بصورة كبيرة خلال الفترة التي سبقت ثورة يناير، غير أنني أتوقع من الصندوق إبداء قدر أكبر من المرونة عند التعامل مع الحالة المصرية أخذا في الاعتبار طبيعة الظروف الراهنة للاقتصاد المصري. وأيا كان الوضع، أعتقد أن على الحكومة المصرية أن تكون حذرة للغاية فيما يتعلق بحزمة السياسات التي ستقترحها، فليس من مصلحة صانع السياسة في الوقت الحالي إحداث تعديلات جوهرية في سياسات الدعم غير المباشر للسلع والخدمات، أو في رسوم السلع والخدمات العامة الأساسية مثل الماء والكهرباء، أو تجميد الأجور والمعاشات، أو التفكير في المساس بقيمة الجنيه، فجميع هذه السياسات ستلقى مقاومة عنيفة من القوى السياسية كافة، وربما تتسبب في إجهاض البرنامج. في المقابل أرى أن إصلاح النظام الضريبي ورفع كفاءة الجهاز الضريبي والقضاء على الفساد فيه، وتعديل الرسوم التي تخص بعض خدمات قطاع الأعمال، أو المقابل الذي يدفع لاستغلال أملاك الدولة إلى آخر هذه الخيارات المالية المختلفة، يمكن أن يساعد على إحداث نقلة كبيرة في الإيرادات العامة، التي قد تغني الحكومة في الوقت الحالي عن اللجوء إلى خفض الدعم ورفع تكلفة السلع والخدمات العامة. من حيث الإنفاق قد يكون من الضروري في المرحلة الحالية البحث في سبل قصر الدعم على مستحقيه الحقيقيين، بصفة خاصة دعم الوقود والطاقة الذي يمكن أن يوفر مبالغ ضخمة للميزانية العامة للدولة. في المقابل يجب أن تطبق مصر وبكفاءة عالية شبكة للأمان الاجتماعي لحماية الطبقات الفقيرة وضمان عدم تأثرها ببرنامج الإصلاح، وأن تصيغ في الوقت ذاته سياسات فاعلة لفتح المزيد من الوظائف لمواجهة معدلات البطالة المرتفعة بين الشباب وما يصاحبها من انعكاسات سياسية واجتماعية خطيرة على المجتمع المصري. من أهم المقترحات التي قدمت للتعامل مع الدعم هو استبدال الدعم بزيادة الأجور للعاملين في الدولة، وهو - في رأيي - ليس حلا صحيحا، ذلك أن الطبقات الفقيرة من الشعب المصري لا تعمل كلها في الحكومة، كما أن غالبيتها تعمل في القطاع الخاص غير المنظم، الأمر الذي سيجعل من الصعب مد زيادات الأجور لهذه الفئات، ولذلك أعتقد أن قضية ترشيد الدعم تحتاج إلى قدر أكبر من الدراسة لصياغة آليات أكثر كفاءة في التعامل مع الحالة المصرية، حتى يتم ذلك ستظل قضية الدعم من أكثر القضايا حرجا في مجتمع فقير مثل المجتمع المصري. في جميع الأحوال يجب ألا توافق مصر على أي مقترح لخفض قيمة الجنيه، فقد جربت مصر مسبقا مثل هذه السياسات التي لم تحدث الآثار المفترضة لتخفيض قيمة العملة على ميزان المدفوعات، نظرا لغياب شروط نجاح سياسة خفض قيمة العملة على الحالة المصرية، بصفة خاصة ارتفاع مرونة الطلب السعرية للصادرات والواردات. كما أنه ثبت مسبقا أن خفض قيمة الجنيه يؤدي إلى نشوء منحنى J مفلطح بصورة كبيرة، بالشكل الذي يشير إلى بطء استجابة صافي الصادرات لخفض قيمة الجنيه. كذلك تعرضت مصر لموجات تضخمية عنيفة صاحبت أي تراجع يحدث في قيمة الجنيه، وبالطبع فإن أي مقترح للحد من الزيادات في الأجور والمعاشات أو ترشيد الدعم لا يمكن أن ينجح إذا أخذ التضخم في التصاعد على نحو يضر بالفئات ذات الدخول المحدودة. أحد أهم جوانب عدم الراحة في الظروف الحالية هو غياب البرلمان الذي يجب أن يوافق على حزمة السياسات التي ستطبق بموجب برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي كي يعطى لهذا البرنامج الشرعية المناسبة، إلا أنه يبدو أن الصندوق على استعداد للتفاوض مع مصر على الرغم من غياب البرلمان. أما أهم التكاليف المباشرة للقرض فهي تكلفة الفوائد على القرض، لكن هذه القضية قد لا تحتل أهمية كبيرة قياسا بتكلفة القروض التي تتم على أساس معدلات الفائدة السوقية، نظرا لأن الصندوق لا يقرض الدول بمعدلات الفائدة السوقية، أو بمعدلات الفائدة المعدلة بالمخاطرة، وهو المعدل الذي يتوقع أن يكون كبيرا جدا بالنسبة للاقتصاد المصري أخذا في الاعتبار طبيعة التصنيف الحالي للجدارة الائتمانية لمصر التي هي في مستوى متدن جدا يجعل المقرضين لا يقدمون على إقراض مصر سوى بمعدلات مرتفعة جدا للفائدة، سواء محليا أو دوليا. إن أهم ما تحتاج إليه مصر في الوقت الحالي هو تحقيق معدلات مرتفعة للنمو لفتح المزيد من الوظائف للعاطلين بشكل عام وللداخلين الجدد إلى سوق العمل على نحو خاص، حتى يمكنها أن تتعامل مع ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، التي تمثل حاليا القنبلة الموقوتة القادمة في الاقتصاد المصري. ومن ثم فيجب أن تتم صياغة برنامج المساندة على النحو الذي يضمن تدفق أكبر قدر من الاستثمار الأجنبي المباشر ودفع مستويات الاستثمار الكلي في الاقتصاد المصري، مصحوبا بحزمة سياسات مشجعة للاستثمار المباشر، وعلى رأسها جميعا محاربة الفساد، الذي يشكل في الوقت الحالي آفة تنتشر في ربوع مصر كافة على النحو الذي يمكن أن يجهض أي استراتيجيات لدفع النمو القائم على الاستثمار الأجنبي المباشر. وأخيرا لا بد من التحذير من فشل المفاوضات مع الصندوق، لذا يجب على صانع السياسة بذل أقصى جهد لإنجاح هذا الاتفاق، ذلك أن فشل المفاوضات سيرسل إشارات سيئة للغاية في الداخل والخارج، وسيؤثر بشكل كبير في قيمة الجنيه المصري وفي قدرة الاقتصاد المصري على جذب الاستثمارات المباشرة، وهو أهم ما تحتاج إليه مصر في الوقت الحالي، فضلا عن أن تدفق المعونات والمساعدات للاقتصاد المصري سيرتبط إلى حد كبير بالاتفاق، فالكثير من قرارات المساعدات الدولية للاقتصاد المصري ستستند إلى هذا الاتفاق بشكل أساسي.
إنشرها